٢٠٢٤ كانون الأول ١ _ ١٤٤٦ جمادى أول ٢٩ الأحد يعد الإعلام بأشكاله المختلفة أحد أقوى الأدوات في بناء ثقافات الشعوب وصياغة وعيها، لا سيما فـــي الـــــبلاد الــعــربــيــة وخـــاصـــة بعد الـــتـــحـــولات الــهــائــلــة الـــتـــي مـــر بها الإعلام العربي، وانتقاله من الأدوار التقليدية للإعلام إلـى أخــرى أكثر تـعـقـيـد ًًا مـثـل الـتـأثـيـر عـلـى الـــرأي العام وتشكيل الهويّّة الثقافية. وفي سياق بناء الثقافة، يفترض بـــــالإعلام الــعــربــي أن يــكــون مـنـبـرًًا يـعـزّّز الانـتـمـاء والـهـويّّــة، ويحميها من محاولات تذويبها في الثقافات الأخــــرى، خـاصـة فـي ظـل العولمة المتسارعة الـتـي تسعى لطمس الفروقات الثقافية وتحويل العالم إلى مكان ذا صوت واحد. ونــــــذهــــــب هــــنــــا إلـــــــى ضـــــــرورة التساؤل «هل نجح الإعلام العربي ا في تحقيق هذا الدور؟» فعل ًا بين بناء الهوية وزعزعتها الإجابة عن هذا السؤال تحمل وجـوه ًًــا عـــدّّة؛ فمن جـهـة، تمكّّنت بعض المؤسسات العربيّّة -إلـى حد جيّّد- من تعزيز قيم الانتماء والاعتزاز بالهوية، سواء من خلال إنتاج محتوى ثقافي غني يعكس الــتــنــوّّع الـكـبـيـر فـــي المجتمعات الـــعـــربـــيّّـــة، أو مـــن خلال تسليط الـضـوء على قضاياها المصيرية، ولـكـن مـن جهة أخـــرى، فــإن جــزء ًًا كـــبـــيـــرًًا مـــن الإعلام الـــعـــربـــي وقــع فــي فـــخ الاسـتـهلاكـيـة، إذ انشغل بالسعي وراء الـربـح على حساب المحتوى القيمي والثقافي. بين صرخة المذياع الأولى وثورة الشاشات تـخـيـل شـــابًًـــا عــربــيًًــا مـــن الـقـرن الماضي، يجلس حول مذياع قديم مـــع أفـــــراد عــائــلــتــه، يـنـتـظـر نـشـرة الأخـبـار التي ستحدثهم عن كفاح الـشـعـوب، مطلقة تلك الـعـبـارات الــــوطــــنــــيّّــــة الــــقــــومــــيّّــــة، وتـــجـــيّّـــش جـمـهـورهـا بمسمى «الــعــروبــة»، كان الإعلام في ذلك الوقت نافذة أمل وصوتًًا للحرية. الآن، أصبحنا في عصر الهواتف الــذكــيــة، حـيـث يـجـد ذلـــك الـشـاب -الـــذي أصـبـح الـيـوم جـــد ًًا- نفسه غـــارق ًًـــا وســـط سـيـل مـــن الـقـنـوات والــمــواقــع الــتــي تــصــرخ كــل منها برسالة مختلفة. وهنا يُُطرح السؤال «هل تغيّّر الإعلام العربي مـن وسيلة تُُوحد الناس حول رسالة سامية إلى أداة تشتتهم؟ وما الـذي حدث لمهمة الإعلام في بناء الثقافة؟». لنعد خطوة إلى الوراء، ونبدأ في تفكيك هذا الدور وننظر في كفاءته وتأثيره اليوم.. التباين في الإعلام العربي.. يقول مدير مكتب قناة الجزيرة فـــي الأردن حــســن الــشــوبــكــي إن المحتوى الإعلامــي العربي يعاني من ضعف ملحوظ، مرجع ًًا السبب إلى غياب التناغم بين مؤسسات الإعلام العربي واخــتلاف ملكياتها وســـيـــاســـات الـــــــدول الـمـسـيـطـرة عليها. وأشــــــــــــــــار إلـــــــــــى أن «الــــــحــــــق الـــفـــلـــســـطـــيـــنـــي»، عــــلــــى ســبــيــل الـــمـــثـــال، لا يــظــهــر بــشــكــل مـوحـد وقــــــوي فــــي الـــمـــحـــتـــوى الإعلامــــــي الـعـربـي الـمـنـشـور عـلـى «الشبكة العنكبوتيّّة»، مبيّّنًًا أن هذا التباين لا يخدم القضية الفلسطينية، بل يضر بها. وأوضـــــح الـشـوبـكـي أن الإعلام الــعــربــي يـفـتـقـر لــلــقــوة الـقـانـونـيـة والتنسيق المشترك الـذي يمكّّنه من الدفاع عن القضايا الجوهرية، مؤكدًًا أن المواقف الإعلامية تتبع سياسات الدول المعني ّّة، كل وفق مـصـالـحـه ومــواقــفــه مـــن الـقـضـايـا المختلفة. ولفت الشوبكي إلى أن الإعلام الـــعـــربـــي لـــم يــكــن فـــي الـمـسـتـوى الــــمــــطــــلــــوب لـــلـــتـــعـــبـــيـــر عــــــن حــق الـفـلـسـطـيـنـيـيـن الــــــذي وصـــفـــه بــ 76 «الــحــق الأبـــلـــج» الـمـمـتـد عـبـر عـــام ًًـــا مـــن الاحـــــــتلال الإســرائــيــلــي والــنــكــبــات الـــتـــي تـــطـــول الـشـعـب الفلسطيني وتشتته. وأضاف أن الاحتلال الإسرائيلي لـــم يـقـتـصـر أثـــــره عــلــى فلسطين ا عربية فقط، بل امتد ليشمل دولًا أخرى، وأثر في المنظومة العربية ككل وفي الديمقراطية والجغرافيا الـــســـيـــاســـيـــة لــلــمــنــطــقــة، واصـــف ًًـــا الــمــحــتــوى الإعلامـــــــي فـــي الــوطــن العربي بـ «المشتت والضعيف»، وهـو بحاجة إلـى جهد كبير لإعـادة إطلاقـه من جديد ليكون أكثر قوة وتأثير ًًا. التبعية السياسية.. وضعف المحتوى في الإعلام العربي يــــقــــول الـــشـــوبـــكـــي إن ضـعـف المحتوى الإعلامــــي الـعـربـي يعود إلـى عـدة أسباب جوهرية، أبرزها الــتــبــعــيــة الــســيــاســيــة والـمـلـكـيـة الموجهة لوسائل الإعلام، مشيرًًا إلــى أن الإعلام العربي يفتقر إلى الاســتــقلالــيــة، إذ تـمـت الـسـيـطـرة عليه إمــا مـن الحكومات أو رجـال الأعـــمـــال، وبـالـتـالـي نـــرى محتوى غير موضوعي ولا يخدم السرديات الــعــربــيــة أو الــقــضــايــا الــمــحــوريــة بشكل فع ّّال. وتــابــع أن هـــذه الـتـبـعـيـة تــؤدي إلى «رسائل إعلامية غير واضحة» وغياب التناغم بين وسائل الإعلام العربيّّة، مضيفًًا أن الإعلام العربي «موجه بشكل كبير من السلطة الـــســـيـــاســـيـــة»، إذ إنـــــه أثـــــر سـلـبًًــا على جــودة المحتوى وجعله غير مــتــرابــط، وعـكـس حـالـة الانـقـسـام السياسي في العالم العربي. ولـــــفـــــت الــــشــــوبــــكــــي إلــــــــى أن المحتوى الإعلامــي العربي يعاني مـــن ضـعـف واضـــــح، مـبـيّّــنًًــا وجـــود حـالـة تخبط كـبـيـرة فــي المحتوى الإعلامــــي، فهو فـي أغلبه إمــا تابع للسلطة أو للقطاع الخاص، الذي يضع الأربـــاح فـي مقدمة أولوياته على حساب المضمون الإعلامي. وأشـــــــار إلـــــى غـــيـــاب تـحـقـيـقـات استقصائية جـادة تتناول القضايا الحقوقية والإنـسـانـيـة فـي العالم العربي، إذ إن التركيز منصب على المواد الاستهلاكية والدعائية التي لا تضيف قيمة حقيقية للجمهور. وأضـاف الشوبكي أن المحتوى الإعلامـــــــــــي يـــعـــانـــي مـــــن انـــتـــشـــار التضليل والـفـبـركـات، خـاصـة عبر الـمـنـصـات الـرقـمـيـة، م ّّـــا يـزيـد من حالة الفوضى الإعلامـيـة ويضعف قـــدرة الإعلام الـعـربـي على تقديم سـرديـة متماسكة تـخـدم القضايا المصيرية. ويـــــرى أن الإعلام الـــعـــربـــي لم ينجح في إيصال السردية العربية والفلسطينية إلــى العالم بشكل كـــبـــيـــر، مـــرجـــع ًًـــا ذلـــــك إلـــــى ضـعـف الـــمـــحـــتـــوى وزيـــــــــادة «الـــفـــبـــركـــة» والـتـضـلـيـل وغــيــاب الـتـرجـمـة إلـى لغات أجنبية. وقال الشوبكي إن هناك فرصة مهدورة لتعزيز الحضور الحضاري ا ًا الــعــربــي مـــن خلال الإعلام، قـــائل ا أخـرى بالمعنى «إنّّــا لم نغزو دولًا الـحـضـاري والـثـقـافـي، ولــم نوصل رسالتنا بشكل قوي». وانتقد مـحـاولات وزراء الإعلام العرب لضبط المحتوى الإعلامـي، مــشــيــرًًا إلـــى أن هـــذه الــمــحــاولات تركزت فقط على الجوانب المالية والــتــجــاريــة، مـثـل الإعلانــــــات على المنصات الرقمية الكبيرة، دون الانـــتـــبـــاه إلــــى خـــطـــورة الـمـحـتـوى وجودته. وأوضــــــح أن هــــذه الـــجـــهـــود لم تـــتـــطـــرق إلـــــى جـــوهـــر الــمــشــكــلــة، وهـــي ضـعـف الـمـحـتـوى الإعلامــــي و»ركـــاكـــتـــه»، وعـــــدم قـــدرتـــه على الــمــنــافــســة أو إيـــصـــال الــرســائــل الإعلامية بشكل فعال. أزمة الثقة بالإعلام ومتصد ّّرو المشهد الإعلامي؟ يشير الكاتب والأكـاديـمـي عبد الستار قاسم، في مقاله المنشور عـــلـــى «الــــجــــزيــــرة.نــــت»، إلـــــى أن الإعلام العربي يعاني من أزمة ثقة عميقة بينه وبين الجمهور، وهي أزمـة تراكمت بفعل عدة عوامل، فقد اعتاد المواطن العربي سماع روايات إعلامية تتناقض مع الواقع الـذي يعيشه، حيث بـات الخطاب الإعلامي مشبع ًًا بأخبار الانتصارات والإنجازات المزعومة التي لا تمت للحقيقة بص ِِلة. وتـــابـــع «هـــــذا الانـــفـــصـــام جعل الــفــرد الـعـربـي يميل إلـــى تصديق ما تـراه عينه وتكذيب ما تسمعه أذنـــــه، م ّّـــا أدى إلـــى تـــدهـــور صـــورة الإعلام العربي إلى حد أن الكثيرين يرون أن الأخبار الوحيدة الصادقة فيه هي تلك المتعلقة بالوفيات والتعازي». الإعلام الــــعــــربــــي، كـــمـــا يـشـيـر قـــاســـم، يـفـتـقـر فـــي مـعـظـمـه إلــى الاستقلالية، حيث تسوده هيمنة الأنظمة السياسية التي تستغله كــــأداة لتلميع صـورتـهـا والـتـرويـج لها، وهذا الارتباط الوثيق بالأنظمة حو ّّل الإعلاميين إلى مجرد وسطاء لتكرار خطاب السلطة، مما زاد من فقدان المصداقية لدى الجمهور. وفي هذا السياق، تبرز معضلة «الــم ُُــثــق ّّــف الـــعـــربـــي»، الــــذي فقد هـو الآخـــر مكانته كمصدر للوعي والـــتـــنـــويـــر، مـــقـــارنـــة بــنــظــرائــه في الغرب، الذين ساهموا في إطلاق ثورات وتحقيق إصلاحات سياسية واجتماعية، يبدو المُُثقّّف العربي في حالة من الخضوع والتواطؤ مع الأنـظـمـة، وهـــذه الـصـورة السلبية تمتد إلى الأكاديميين والمثقفين الــــذيــــن يـــظـــهـــرون عـــلـــى شـــاشـــات الفضائيات للدفاع عـن سياسات الأنــــظــــمــــة، م ّّـــــا يـــعـــم ّّـــق إحـــســـاس الـــجـــمـــهـــور بــــالــــيــــأس مـــــن وجـــــود شخصيات نزيهة تقود التغيير. ويـــرى قـاسـم أن هــذه الأزمـــة لا تقتصر على الإعلام والمثقفين، بـــل تـشـمـل كـــذلـــك الــمــؤســســات التعليمية، إذ يخشى المعلمون والأسـاتـذة الجامعيون بـث الوعي بـــيـــن الـــطـــلـــبـــة خـــشـــيـــة الـــتـــعـــرض للعقوبات من أجهزة الأمن، وهذه الـحـالـة مــن الــخــوف والاســـتـــسلام أضــعــفــت دور الـتـعـلـيـم فـــي بـنـاء الـوعـي، مما زاد مـن شـعـور الفرد العربي بالعزلة عن منظومة تنمية حـقـيـقـيـة تـــقـــوم عــلــى الـشـفـافـيـة والثقة. منصات التواصل الاجتماعي.. التفاهة «شطارة» وفــــي حــديــثــه خلال حـلـقـة من بـــرنـــامـــج «إيـــنـــغـــمـــا» عــلــى منصة يــوتــيــوب، تــنــاول الــدكــتــور مـأمـون عـلـوانـي الـتـحـولات العميقة التي تــشــهــدهــا الـمـجـتـمـعـات الـعـربـيـة فــي ظــل الـعـصـر الـرقـمـي، مشيرًًا إلــى أن مفهوم التحضر والثقافة أصبحا اليوم يُُقاسان وفق معايير سطحية. وأوضــــــح أن الــشــخــصــيــة الـتـي تـــــــروج عـــبـــر مـــنـــصـــات الـــتـــواصـــل الاجتماعي للموضة أو الـعـبـارات الرائجة، وتستعرض أسلوب حياة فائق الجمال، تُُعتبر اليوم مظهرًًا من مظاهر التحضر، رغـم أن هذا لا يعكس جوهر الثقافة أو التطور الاجتماعي. وأضـــــــــــاف عـــــلـــــوانـــــي أن هــــذه الــــظــــاهــــرة أســـهـــمـــت فــــي تــعــزيــز الانـحـطـاط الأخلاقـــــي، الـــذي أصبح يُُنظر إلـيـه على أنــه «شــطــارة» أو سمة من سمات الحياة الحديثة، وهـــو مـــا تـجـسـد فـــي ظــهــور بعض الشخصيات المثيرة للجدل. وتطرق علواني إلى تأثير منصات التواصل الاجتماعي، التي تحولت مـن أدوات للتبادل الثقافي إلى وسيلة ترويج للمحتوى الترفيهي ا «أصــبــحــنــا نعيش الـــتـــافـــه، قــــــائلًا فـــي عـصـر تـتـسـابـق فـيـه منصات الــتــواصــل الاجـتـمـاعـي فــي تقديم الـقـصـص السطحية حـــول الحياة الــشــخــصــيــة، بـيـنـمـا تـــهـــدد الـقـيـم الثقافية الأساسية للشعوب». وحـــــــذر عــــلــــوانــــي مــــن أن هـــذا الــتــحــول فـــي الـمـحـتـوى الإعلامــــي يعكس تغيرات أعمق في أولويات المجتمع، حيث ابتعدت وسائل الإعلام عـــن تــقــديــم الـــمـــواد الـتـي تعزز الثقافة والفكر وتتبنى القيم الأخلاقـيـة، متابعًًا «إن ما نشهده الــــيــــوم هــــو مـــحـــاولـــة لـلـتـشـويـش عـــلـــى الـــقـــضـــايـــا الـــجـــوهـــريـــة الــتــي تـــمـــس مـــصـــيـــر الــــشــــعــــوب، مـثـل القضايا السياسية والاجتماعية الــكــبــرى، مـــن خلال الـتـركـيـز على مـواضـيـع تافهة كـالـريـاضـة والفن الاستعراضي». وفـي إطـار الحديث عن وسائل الإعلام ودورهــــا فــي نـقـل الثقافة العربية، يشير علواني إلى أهمية الـــوعـــي الــجــمــعــي لــــدى الـجـمـهـور الـــعـــربـــي وتـــطـــور وســـائـــل الإعلام بـشـكـل عــــام، مــوضــح ًًــا أن معظم القنوات العربية اليوم تعتمد على تقديم المحتوى الموجه للجمهور بشكل غير نقدي، وبالتالي تكون الرسالة الإعلامية سطحية ولا تثير تساؤلات حقيقية حول ما يُُعرض. وأضــــــــاف أن الإعلام الـــعـــربـــي أصـبـح أكـثـر توجيهًًا نحو التسلية والترفيه، مما يساهم فـي تعزيز فــكــرة الـسـلـبـيـة واللامــــبــــالاة لــدى المتابعين، بدلا من تحفيزهم على التفكير النقدي. وأشــــار عـلـوانـي إلـــى أن الإعلام قـد يتخذ أدوارًًا متعددة فـي بناء الثقافة، لكن هــذه الأدوار لا تـزال تقتصر في كثير من الأحيان على تكرار الأفكار السائدة وعدم تقديم مـحـتـوى يـتـحـدى الـــواقـــع أو يحث على الإصلاح، معتبرًًا أن التحول إلــى إعلام هـــادف يتطلب تجديدًًا في المفاهيم والتركيز على طرح القضايا الاجتماعية والاقتصادية التي تمس الواقع العربي. وأضاف أن التحدي الأكبر الذي يــواجــه الإعلام الـعـربـي الــيــوم هو الاستقلالية وعدم التأثر بالتوجهات الـسـيـاسـيـة الــتــي قــد تـضـعـف من مصداقية المؤسسات الإعلامية. ويــــرى -مــــن جــهــة أخـــــرى- أن وسائل الإعلام الجديدة، بما فيها منصات الإنـتـرنـت، تمنح الفرصة للتعبير عـن رأي الجمهور بشكل أكبر، «لكن هذا لا يعني بالضرورة أن هــــــذه الــــوســــائــــل خـــالـــيـــة مـن التحديات»، خصوص ًًا فيما يتعلق بالمعلومات المضللة والتضليل الإعلامي. تدريس الصحافة في الوطن العربي.. الواقع والتحد ّّيات وفي عصر باتت فيه المعلومة قوة استراتيجية، والإعلام معيارًًا لـنـهـضـة الـــشـــعـــوب، تــجــد كــلــيّّــات ومـــعـــاهـــد الـــصـــحـــافـــة فــــي الـــوطـــن الــعــربــي نـفـسـهـا أمــــام مـسـؤولـيـة كبيرة: إعداد جيل من الصحفيين الـقـادريـن على مــجــاراة التحولات السريعة فـي الصناعة الإعلامـيـة، ورغــم تنامي الاهتمام الأكاديمي بهذا المجال أكثر من قبل، إلا أن الــتــحــد ّّيــات لا تــــزال تـلـقـي بـظلالـهـا عـلـى واقـــع الــتــدريــس، فالمناهج الـــتـــقـــلـــيـــديـــة تـــعـــجـــز عــــن مـــواكـــبـــة متطلّّبات الـعـصـر الـرقـمـي، فيما يـــعـــانـــي الــــــــطلاب مــــن نـــقـــص فـي التدريب العملي الذي يُُعد أساس ًًا لــصــقــل الــــمــــهــــارات، إضــــافــــة إلـــى غــيــاب الـتـنـسـيـق بـيـن الـجـامـعـات والــمــؤســســات الإعلامــــيــــة، مـــا قد يعكس اختلافًًا واضحًًا في الرؤية حـــول أولـــويـــات التعليم الإعلامـــي واحتياجات السوق. ت ــــطــــر ح � ، فــــــي هــــــــذا الـــــســـــيـــــاق تـــســـاؤلات جــوهــريــة: هـــل يـواكـب تـــعـــلـــيـــم الـــصـــحـــافـــة فـــــي الـــوطـــن الـعـربـي الاحــتــيــاجــات المتسارعة لـلـسـوق الإعلامـــــي؟ وهـــل تتمكّّن المؤسسات الإعلامــيــة مـن إعــداد صـحـفـيـيـن قــــادريــــن عـــلـــى خـــوض معارك الــرأي والحقيقة في عصر التحول الرقمي وحرب السردي ّّات؟ منتدى كلي ّّات الصحافة.. محاولة وفي محاولة لتغيير هذا الواقع وتحقيق نقلة نوعية فـي التعليم الإعلامـــي في العالم العربي، عقد مـعـهـد الـــجـــزيـــرة للإعلام مـنـتـدى كليات الصحافة في محاولة لجمع المؤسسات الأكاديمية والمعاهد الجامعية المتخصصة في تدريس الإعلام والصحافة، وليكون بمثابة خـطـوة جـــادة نـحـو تحسين جــودة التعليم الإعلامـــــي فــي المنطقة، بــجــمــع أكـــاديـــمـــيـــيـــن وصـحـفـيـيـن ومـهـنـيـيـن مـــن مـخـتـلـف الــبــلــدان الـعـربـيـة، لتحديد أبـــرز التحديات الـتـي يـواجـهـهـا التعليم الصحفي فـــــي ظـــــل الــــتــــحــــولات الـــســـريـــعـــة الـتـي يشهدها الـمـجـال الإعلامـــي، وتسليط الضوء على الفجوة بين الـتـعـلـيـم الأكــاديــمــي واحـتـيـاجـات سوق العمل. نظم 2023 في تشرين الثاني مـعـهـد الــجــزيــرة للإعلام، منتدى كـــلـــيـــات الـــصـــحـــافـــة فـــــي الـــعـــالـــم الــــعــــربــــي، بــــهــــدف بـــحـــث مــنــاهــج وأسـالـيـب تــدريــس الـصـحـافـة في المنطقة، وتحديد أبــرز التحديات الــتــي تـــواجـــه الـتـعـلـيـم الـصـحـفـي، حيث سلط المنتدى الضوء على قضايا رئيسية أبرزها الفجوة بين الـمـنـاهـج الأكـاديـمـيـة ومتطلبات سوق العمل، إذ شدد المشاركون عـــلـــى أهـــمـــيـــة تـــحـــديـــث الــمــنــاهــج لتواكب التطورات المتسارعة في الإعلام، لا سيما في ظل التحولات الرقمية التي تستدعي اكتساب مهارات وتقنيات جديدة. وأشـــــــار الـــمـــنـــتـــدى إلـــــى نـقـص الــتــركــيــز عــلــى الـــتـــدريـــب الـعـمـلـي داخل كليات الصحافة، م ّّا يعكس ضعف ارتباطها بالمشهد الإعلامي ومتطلبات المهنة. وأوضـح الأكاديميون أن برامج الـتـدريـب المهني غـالـبًًــا مــا تكون «جـزئـيـة وغـيـر كــافــيــة»، مــا يحرم الـــطلاب مـن الـمـهـارات الأساسية اللازمـــــــة لــلــمــمــارســة الـصـحـفـيـة، وهــذا الـواقـع يــؤدي إلــى صعوبات في تأهيل الخريجين للتعامل مع التحديات المهنية بعد التخرج. وتطرق المشاركون إلى مشكلة محدودية الوصول إلى المعلومات فـي بعض الـــدول الـعـربـيـة، والتي تشكل عائق ًًا أمام عمل الصحفيين وتـــحـــد مـــن قـــدرتـــهـــم عــلــى تـقـديـم تقارير دقيقة وموثوقة، موضحين أن هـــذا الــواقــع يـقـف حــاجــزًًا أمــام تطوير المشهد الإعلامـــي العربي، مــــا يــنــعــكــس ســـلـــبًًـــا عـــلـــى كـــفـــاءة الصحفيين وقدرتهم على التحقيق والبحث. ونــــــاقــــــش الــــمــــنــــتــــدى ضــعــف تضمين الـعـلـوم الاجـتـمـاعـيـة في مناهج كليات الصحافة، مشددين على أهمية هذه الخلفية المعرفية لفهم السياقات المحيطة بالأحداث الإعلامية. واعتبر المتحدثون أن غياب هذا التكامل يضعف قـدرة الصحفيين على إنتاج محتوى مهني متوازن ومـبـنـي عـلـى أســـس علمية، مما يـــؤثـــر عــلــى مــوضــوعــيــة الـصـحـافـة ومصداقيتها. وأبرز المنتدى التفاوت الواضح في مناهج وأساليب التعليم بين الجامعات العربية، وهـو ما يؤدي إلــى غـيـاب التوحيد فـي المعايير الأكاديمية. وأكــــــــد الــــمــــشــــاركــــون أن هـــذا التفاوت ينعكس على مستويات الكفاءة بين الـــطلاب، مـا يحد من قدرتهم على التنافس فـي سوق العمل الإقليمي والدولي. وخلص المنتدى إلـى توصيات بضرورة تعزيز التنسيق بين كليات الصحافة في العالم العربي، وتطوير الـمـنـاهـج لـتـتـوافـق مــع متطلبات العصر الرقمي، إضافة إلى تعزيز الـتـدريـب العملي والـتـكـامـل بين الصحافة والعلوم الاجتماعية، بما يسهم في تخريج جيل جديد من الصحفيين القادرين على مواجهة التحديات المهنية والمساهمة في تطوير الإعلام العربي. ا .. الأردن مثالًا تقول الصحفية هدى أبو هاشم فــي مــقــال لـهـا عـلـى منصة معهد الـــجـــزيـــرة للإعلام، إن الــتــحــولات الكبيرة التي شهدها الوطن العربي خلال السنوات الأخيرة، أبرزت دور الإعلام في إحداث التغيير وإدارته، لكنها فــي الــوقــت نفسه كشفت عن حجم التشوّّهات التي يعاني منها الإعلام العربي، مشيرة إلى الـفـجـوة الـواضـحـة بين مـا يــدرّّس فـي كليّّات الإعلام فـي الجامعات الأردنـــيـــة -عــلــى سـبـيـل الــمــثــال لا الحصر-، وبين ما يحدث فعلي ًًّا في المؤسسات الإعلامية. وتشير أبو هاشم إلى أن الأردن بـــدأ تـعـلـيـم الـصـحـافـة الأكــاديــمــي ، حـيـنـمـا أُُســـس 1981 فـــي عــــام أول قــســم صــحــافــة فـــي جـامـعـة الــيــرمــوك، الـــذي تـحـول فيما بعد ،2008 إلـى كلية للإعلام في عـام كانت هناك 2019 وبحلول عــام سـبـع مـؤسـسـات تعليمية تقدم تخصصات الإعلام فـي الأردن، مّّا يعكس اهتمام الـبلاد بتطوير هذا المجال الأكاديمي. آلية القبول والضعف في الجوانب المهنية لـكـن وبـحـسـب كلامـــهـــا، يعاني الـــنـــظـــام الأكــــاديــــمــــي فــــي الأردن مـن خلل فـي آلـيـة قـبـول الـــطلاب، فأصبح القبول في كليات الإعلام يعتمد بشكل أساسي على معدل الثانوية العامة فقط، وهو ما جعل تـخـصـص الإعلام اخـــتـــيـــارًًا لـكـثـيـر مـــن الــــــطلاب الـــذيـــن لا يـمـتـلـكـون الرغبة أو الاستعداد المهني لهذه المهنة، مؤكدة أن «غياب مقابلات القبول أتاح للطلاب غير المهتمين بالصحافة الدخول إلى هذا المجال، ما يؤثر سلبًًا على مستوى الجودة الأكاديمية والتدريب العملي». الفجوة الجيلية والمناهج العتيقة وتـــنـــتـــقـــد أبـــــو هــــاشــــم الـــفـــجـــوة الجيلية بين أعضاء هيئة التدريس والطلاب، إذ يفتقر بعض الأساتذة إلـــى الــخــبــرة الـعـمـلـيـة الـمـيـدانـيـة ويـعـجـزون عـن مواكبة التطورات التكنولوجية في الإعلام، م ّّا أد ّّى إلى تراجع جــودة التعليم، حيث يظل التدريس محصورًًا في الأساليب الـتـقـلـيـديـة الــتــي لا تـتـمـاشـى مع الاحتياجات المتجددة للطلاب في عصر الإعلام الرقمي. وأشــارت إلى أن مناهج الإعلام فـي الـجـامـعـات الأردنــيــة لا تواكب الــتــطــورات الـسـريـعـة فــي المجال الإعلامـــــــي، إذ تـفـتـقـر الــعــديــد من الـــكـــلـــيـــات إلــــــى تـــحـــديـــث الــــمــــواد الدراسية بشكل مستمر، ما يترك الطلاب في مواجهة تحديات كبيرة في المستقبل المهني، موضحة أن العديد من الكراسات الدراسية تعتمد على مراجع قديمة، أو حتى نقل حـرفـي مـن مناهج جامعات أخـــــرى، دون أي تـحـديـث يـواكـب التغيرات المستمرة في الإعلام. ضرورة الإصلاح الجذري في كليات الإعلام وتــؤكــد أبـــو هــاشــم، أن الإصلاح فــي كـلـيـات الإعلام يـجـب أن يبدأ من الإلـغـاء الكامل لنظام القبول الـمـعـتـمـد عــلــى مـــعـــدل الــثــانــويــة الـــعـــامـــة فـــقـــط، «ويــــجــــب أن يـتـم استبداله بنظام أكثر دقـة يعتمد على اختبارات ومقابلات شخصية لـتـحـديـد مـــدى اســتــعــداد الـــطلاب لـهـذا التخصص»، مــؤكّّــدة أهمية تطوير المناهج الأكاديمية لتصبح أكـثـر تـــوازنًًـــا بـيـن الـجـانـب النظري والــعــمــلــي، مـــع ضـــــرورة تحديثها بشكل مستمر لتواكب التطورات التكنولوجية. وتــــــــرى أن هــــــذه الإصلاحـــــــــات يجب أن تتم أيـض ًًــا على مستوى الهيئة التدريسية، إذ يجب اختيار الأسـاتـذة بناء على معايير دقيقة تــضــمــن قـــدرتـــهـــم عـــلـــى تـــدريـــس الإعلام بشكل فعال ومتطور. هل نحن بحاجة لإعلام يصنع نهضة أم لأساس يدفعه لذلك؟ إن الانشغال بالبحث عن إعلام يعزز الهويّّة العربيّّة ويدافع عنها، يغيّّب الغاية الحقيقيّّة وراء هذا السعي، لأن انتظار النتيجة يدخلنا فـي حلقة مفرغة مـن التساؤلات والرهانات، ويحيطنا ببيئة عبثيّّة، باعتبار أن كل نتائج هـذا السعي تصبح شم ّّاعة للركود والانتظار. الإعلام يجب أن يـكـون وسيلة تــعــزيــز لــيــس أكـــثـــر، أي أن الــــدور الحقيقي يقع على عاتق كل عربي ّّ، في الاعتزاز بهويته وتاريخه، وليس هـــذا فـحـسـب، بــل يـسـعـى جــاهــد ًًا للإشــــــارة لــهــا فـــي تـفـاصـيـل يـومـه الـبـسـيـطـة وفــــي تـــعـــاملاتـــه، يــربّّــي أبــنــاءه عليها، ويـتـحـدث عنها في كل محفل، وهكذا يحقق الجانب النظري والعملي من هذا السعي، ولا يسقط فــي فــخ التنظير الــذي أهلكنا لأعوام طويلة. أما اليوم، ومع انعدام الأسباب والدوافع وفساد الأساس، لا ننتظر تعزيزًًا من الإعلام بالطريقة التي نطمح إليها، بل أصبحنا ننتظر على الأقـــل أن يـبـذل مـحـاولـة حقيقيّّة تخلق دافع ًًا عند جمهوره، وهذا لا يخفي ضـرورة فهم أن الأمـر ليس بتلك الـسـهـولـة، لأن تغييرًًا كهذا ا لمنظومة فاسدة يجر وراءه تبديل ًا عــمــلــت لـــســـنـــوات خــلــف مـصـالـح «غير مفهومة». 3 في زمن أصبحت فيه أشد الحروب فتك ًًا تخاض في ميادين الفكرة لا على ساحات السلاح، تمتلك الثقافة قوة ناعمة في سبيلها تغيير واقع الشعوب، وغرس الهوي ّّة في وجدانها، وصياغة وعيها أمام التيارات المعاكسة وحروب الفكر التي تسعى لأن تنسيها نفسها ومن تكون، وفي هذا السياق، يُُعد الإعلام والفن والأدب أُُطر ًًا أساسية تجس ّّد موردات الثقافة التي تقاوم هذا التآكل، وتساعد الشعوب على أن تتنق ّّل بين فصول تاريخها وتصنع واقعها ومستقبلها. فهذه الصور الثلاث من موردات الثقافة العربي ّّة، تعد نوافذ ًًا مشر ّّعة على العالم، بإمكانها أن تقد ّّم الفكرة وتؤط ّّرها وترس ّّخها، فتنق ُُل الناس بذلك إلى أبعاد بإمكانها أن توس ّّع إدراكهم وتثري ذاكرتهم الجمعية، وبإمكانها أيض ًًا أن تنقلهم إلى أبعاد أخرى ترس ّّخ في عقولهم أفكارًًا مشو ّّهة واتجاهات هد ّّامة، كما يفعل اليوم الإعلام والأدب الموج ّّهان، والفن الاستهلاكي. الملف موردات الثقافة العربي ّّة.. الإعلام والفن والمكتبة نماذج ًًا.. ࣯ ج ود مقدادي � إشراف: س ࣯ إعداد: حمزة زقوت ࣯ ي عياصرة � ن � عو الإعلام العربي.. وسيلة بناء أم أداة هدم؟ ما دور الإعلام العربي في بناء ثقافة الشعوب العربي ّّة؟ ا ؟ ا ًا؟ وهل أد ّّى دوره فعل ١ ج
RkJQdWJsaXNoZXIy NTAwOTM=