صحافة اليرموك

٢٠٢٤ كانون الأول 8 _ ١٤٤٦ جمادى الآخرة 7 الأحد في زمن أصبحت فيه أشد الحروب فتك ًًا تخاض في ميادين الفكرة لا على ساحات السلاح، تمتلك الثقافة قوة ناعمة في سبيلها تغيير واقع الشعوب، وغرس الهوي ّّة في وجدانها، وصياغة وعيها أمام التيارات المعاكسة وحروب الفكر التي تسعى لأن تنسيها نفسها ومن تكون، وفي هذا السياق، يُُعد الإعلام والفن والأدب أُُطر ًًا أساسية تجس ّّد موردات الثقافة التي تقاوم هذا التآكل، وتساعد الشعوب على أن تتنق ّّل بين فصول تاريخها وتصنع واقعها ومستقبلها. فهذه الصور الثلاث من موردات الثقافة العربي ّّة، تعد نوافذ ًًا مشر ّّعة على العالم، بإمكانها أن تقد ّّم الفكرة وتؤط ّّرها وترس ّّخها، فتنق ُُل الناس بذلك إلى أبعاد بإمكانها أن توس ّّع إدراكهم وتثري ذاكرتهم الجمعية، وبإمكانها أيض ًًا أن تنقلهم إلى أبعاد أخرى ترس ّّخ في عقولهم أفكارًًا مشو ّّهة واتجاهات هد ّّامة، كما يفعل اليوم الإعلام والأدب الموج ّّهان، والفن الاستهلاكي. ا للفكر لطالما كانت المكتبة العربية معقلًا والـمـعـرفـة، وعكست هـويـة الـشـعـوب العربية وتنوّّعها الثقافي وازدهــارهــا الأدبـــي والعلمي، مــن الـكـتـب الـتـي أسـسـت للنهضات العلمية والثقافيّّة، إلى روائـع الأدب التي خلّّدت جمال لـغـتـنـا وتــمــيّّــزهــا، والأهـــــم أنــهــا ارتــبــطــت دوم ًًــــا بمشروع بناء الإنسان وصياغة فكرِِه. ولــولا أن بناء الإنـسـان مرتبط ارتـبـاط ًًــا وثيقًًا بقيام مـا يبني معارفهم وفـكـرهـم وثقافتهم، وهـــدمـــه مــرتــبــط بـــهـــدم ثـقـافـتـهـم وكــــل مـــا قد يؤس ّّس لها، لََم ََا أُُتلفت آلاف كتب مكتبة بغداد في نهر دجلة على أيــدي المغول حتى تلوّّنت مـيـاه النهر بـلـون حـبـرهـا، ولـمـا أحـــرق الأسـبـان الكتب الأندلسية بعدما أخذ ما أخذ منها طمع ًًا فـي بناء أرضـيـة ثقافية تبنى عليها حضارتهم، وكانت هـذه المكتبات -مكتبة بغداد ومكتبة قرطبة- مـن المكتبات العظيمة التي شكلت شريانًًا لحضارات أضاءت العالم. والمكتبة العربيّّة، لم تكن يوم ًًا مكانًًا لتخزين الكتب، بل مركزًًا للإبداع الفكري والمعرفة في المجالات كافة، التي رسمت ملامـح الحضارة الـعـربـيـة، فــــإتلاف الـكـتـب لا يعني فـقـط فـقـدان الورق والكلمات، بل هو محاولة لإضاعة جوهر الحضارة نفسها، وحرق الكتب هو نسف لأسس المعرفة التي بنتها تلك الحضارات العريقة، إذ كانت المكتبة العربية ولا تزال لانتقال المعرفة مـن جيل إلــى جـيـل، وهــي الـتـي شكّّلت جوهر الهوية الثقافية للعالم العربي. وبعد هذا الإرث الزاخر، ننظر لواقع المكتبة العربية الـيـوم ونـتـسـاءل: هـل لا تــزال المكتبة العربية تـؤدي دورهـا في بناء العقول وتحقيق الفائدة المرجوّّة؟ أم أنها أصبحت كيانًًا رمزيًًا أكثر من كونها مصدر فعلي للمعرفة؟ فـــي هـــذا الــمــلــف، سـنـفـتـح أبـــــواب المكتبة العربية، ونتمعّّن فـي مضمونها، ونبحث عن أســـبـــاب قـوتـهـا ومــكــامــن ضـعـفـهـا، ونــتــســاءل: هل يمكن لهذا الصرح الثقافي أن يظل منارة للأجيال القادمة، أم أنـه بحاجة إلـى إعــادة بناء ليواكب متطلبات الزمن الجديد؟ بين الإرث والواقع.. من مكتبات بغداد وقرطبة التي أشرقت نورًًا بما تحويه، إلى مكتبات اليوم التي تعج بعناوين لا تعد ولا تحصى، تبدو المكتبة العربية محاصرة بين الإرث والـواقـع الـذي أصبح يعاني-إلى حد مـــا- مــن تــذبــذب الـــجـــودة، فـمـا بـيـن كـتـب تُُنير الطريق وأخــرى لا تحمل سـوى عناوين براقة، يُُــطـرح الـسـؤال الأهـــم: هـل تكفي وفـــرة الكتب لتحقيق نهضة فكرية، أم أن المضمون بحاجة إلـى مراجعة لتلبية احتياجات الـقـارئ العربي اليوم؟ وفي هذا السياق، يقول الكاتب والروائي جهاد الرنتيسي، «قـرأنـا للأوائـــل ومـا زالــت كتاباتهم قابلة للقراءة والمساهمة في تشكيل أرضية وعـي بـالـذات والآخـــر، والاشتباك معه، خيارات الأجيال الجديدة محدودة للغاية وفي مقدمتها مواصلة طريق البحث عن الحرية ودحر الأطماع الخارجية التي لم تتوقف منذ الحروب الصليبية على بلادنـــا، وفـي غمرة المواجهة ستجد هذه الأجــيــال طريقها لمواجهة مــحــاولات تهميش الأمة وشل قدراتها على الفعل». وأضاف أن»المناخات الكارثية» التي نعيشها ما زالـت حبلى بالطاقات الـواعـدة، لأن الأطماع الاسـتـعـمـاريـة قـائـمـة وكــذلــك ضـــــرورات توفير أدوات جديدة للمقاومة والحفاظ على الهوية أصبحت أكبر. غياب الثقة بين القارئ والناشر وتابع الرنتيسي «نحن ندور في حلقة مفرغة، غياب القارئ المستهلك للثقافة، وقلّّة قدرته على اقتناء الكتب وقراءتها بسبب الفقر، وعدم استطاعته على التركيز في عالم متغير وتُُشتت تحولاته الاهتمام،أفقد دور النشر قدرتها على ترويج منتجاتها، م ّّا دفعها إلى البحث عن حلول لأزماتها في معارض الدول القادرة على الشراء لغايات التعويض وسد الخسارات، ويحدث ذلك على حساب نوعية الكتاب ولا يعني وصوله الى القارئ، وهذه المناخات فاقمت أزمة الثقة بين الناشر والقارئ». وقــــــــال الـــرنـــتـــيـــســـي إن الـــمـــكـــتـــبـــات ودور الــنــشــر»يــتــحــركــان فـــي زاويــــــة ضــيــقــة» نقطة ارتـكـازهـا غـيـاب الــقــارئ المستهدف، ولا توجد خيارات سوى توسيع دائرة المتلقي، من خلال البحث عن شراكات مع المؤسسات الرسمية والأهلية وممارسة الضغوطات لخفض أسعار الورق ومن ثم سعر الكتاب ليكون في متناول أصحاب المداخيل الد ُُنيا الذين يشكلون السواد الأعظم من المواطنين الأردنيين. وفي مقال للكاتب والروائي فايز رشيد عام منشور في موقع «بوابة الهدف»، لفت 2017 إلى أزمة النشر التي تواجه الكتّّاب الجادين في العالم العربي، موضحًًا أن دور النشر العربية التي كانت فـي العقود الماضية تـرحّّــب بنشر المخطوطات الجادة بغض النظر عن موضوعها، أصـبـحـت الــيــوم تـشـتـرط عـلـى الـمـؤلـفـيـن دفـع تكاليف الطباعة مسبقًًا كشرط أساسي لنشر كتبهم، مّّا يعكس تغيرًًا كبيرًًا في واقـع النشر العربي. وعــلــى ضـــوء تــراجــع نـسـبـة مـبـيـعـات الكتب الـجـادة، أكـد رشيد أحقية دور النشر في طلب أجرة الطباعة، إذ إنها تعتبر وسيلة دخل مالكها، ولكن مع عدم المبالغة في التكاليف التي ت ُُفرض على المؤلفين. وبيّّن رشيد أن العديد من الناشرين عندهم اعتقاد خـاطـئ بــأن الكاتب يتمتع بـوضـع مالي مـريـح، فـي حين أن غالبية الباحثين والكتاب الجادين يواجهون أزمات مالية تتراكم معها أجور منازلهم ومكاتبهم لأشهر طويلة. وقـال إن لم تكن كاتبًًا «مرتزقا» وتابعًًا في هذا الزمن ورفضت الخضوع لما يريدون إملاؤه عليك ستجد نفسك محاصرًًا، واصف ًًا هذا النوع من الكتّّاب الذي يرفض الخضوع بأنه «سيأكل ا من الطعام. الهواء» بدلًا وذكر رشيد أن هذه الظاهرة «قضية شائكة» تعكس واقع ًًا ثقافيًًا صعبًًا في العالم العربي. «ثقوب منخل الرقيب» وفــي مـقـال نـشـره الكاتب خـالـد بـريـش عام في جريدة القدس العربي، أشار إلى أن 2021 الكاتب يظل محصورًًا بفئة محدودة، ويقتصر دوره عـلـى تحقيق المتعة الـفـكـريـة، نــظــرًًا لما يواجهه مـن قيود صـارمـة تمنعه مـن التحليق بحرية على رفوف المكتبات. وأوضـح أن مـرور الكتاب عبر «ثقوب منخل الرقيب» يحول دون تحقيقه لــدوره الأساسي كجسر لنقل اللغة والثقافة والعلوم والمعرفة بكافة أشكالها. وقــــال بــريــش إن الـقـيـود الــتــي يـتـعـرض لها الكاتب أثناء تنقله بين الـدول العربية ومروره عبر أجهزة الرقابة تُُعد بمثابة «إعدام» لكل ما يحمله من فكر وثقافة ومعان سامية. ويرى أن شعوب العالم العربي أصبحت أكثر وعيًًا ونضجًًا، خاصة بعد سنوات من التجربة على وسـائـل الـتـواصـل الاجتماعي، ومــع ذلـك، يبقى هذا الوعي مكبوتًًا، خوف ًًا من قمع الأنظمة و»محاكم التفتيش» لهم. وتـابـع: «رغــم هــذا القمع، إلا أنــه ومــن خلال الأحــــاديــــث الــجــانــبــيــة عــلــى وســـائـــل الــتــواصــل الاجـتـمـاعـي، وأســلــوب تعليقات الـبـعـض على ا في عوالم أخرى، المنشورات، ندرك أنهم فعلًا وأن كتاباتهم السطحية لا تعبر عنهم ولا عما يجول في فكرهم». الانتشار العالمي والنظرة الاستعمارية وفي سؤالنا عن وجود تجارب أردنية حققت انـتـشـارًًا عالميًًا، يـقـول الكاتب والــروائــي جهاد الرنتيسي إن الانتشار العالمي بحاجة للترجمة، التي تتحكم بها دور النشر الكبرى في الغرب، وهــــذه الـــــدور مـحـكـومـة بــعــدد مـــن الاعــتــبــارات والــمــقــايــيــس، إذ يـنـظـر الـــغـــرب إلـــى الـنـتـاجـات الإبداعية التي تََصدر في بلادنا باعتبارها وثائق اجتماعية، وليست نتاجات ذات قيمة فنية، لذلك تبقى الكتب المترجمة محدودة التوزيع، بــمــا فـــي ذلــــك كـــتـــابـــات الأردنـــيـــيـــن الـــتـــي تمت ترجمتها. وتابع أن بعض العرب يلجأ إلى الكتابة بلغات أخـــرى مــن أجـــل الـــوصـــول، ووصـولـهـم محكوم بتمثلهم الـــوعـــي الــغــربــي ونــظــرتــه الـمـشـوهـة لشعوبنا، ولا تعني قلة انتشارنا العالمي تدني مستوى كتاباتنا بقدر ما تدلل على ع ُُقد الغربيين الكامنة في نظرتهم الاستعمارية، وإصـرارهـم على تنميطنا في الصورة التي يريدونها. وأشار الرنتيسي إلى مجموعة من النتاجات الأردنية التي تستحق الانتشار، بـدءًًا مما كتبه مصطفى وهبي التل «عـــرار» ومـــرورًًا بكتابات غالب هلسا، وتيسير سبول، وهاشم غرايبة، وسميحة خريس، وغيرهم، لكن هذه الكتابات لا تتلاءم بالضرورة مع متطلبات الاستهدافات الغربية لشعوبنا. صراع الورق والرقمنة فـــي الـــوقـــت الـــــذي تـــتـــســـارع فــيــه الـرقـمـنـة وتسيطر فيه التكنولوجيا، يقف الكتاب العربي على مفترق طــرق، فهل استطاعت المكتبات الــعــربــيــة بـمـضـمـونـهـا وتــنــوعــهــا، مــواكــبــة هــذه التحولات؟ وهل يمكن أن تبقى مصدر ًًا للمعرفة في زمن تُُصنع فيه المعلومة في لحظات؟ وفــــيــــمــــا يـــتـــعـــلـــق بـــــصـــــراع الـــمـــكـــتـــبـــات مــع التكنولوجيا، يقول جهاد الرنتيسي إن مشكلة عـــزوف الـمـواطـن الـعـربـي عـن الــقــراءة تـجـاوزت قــــدرة الـمـكـتـبـات عـلـى اسـتـقـطـابـه، إذ لـــم يعد الوصول إلى الكتب صعبًًا في زمن الـ»إنترنت»، لكن المواطن مشتت بين انسحاقه المعيشي، وتغول وسائل التواصل الاجتماعي على تفاصيل حياته اليومية، وفقدانه الثقة بقدرة الثقافة على التغيير، مشيرًًا إلى وجـود أكثر من مكتبة في الأردن تحاول تجاوز هذه العقبات، «لكن مردود المحاولات ما زال محدود ًًا إلى أدنى الدرجات»، ولا بُُد من الإشارة إلى أن تراجع القراءة ظاهرة عالمية في الوقت الراهن. ا .. الأردن مثالًا يرى الرنتيسي أن الم ََهمة لا تقع على عاتق الكاتب الأردني وحده، يوجد أكثر من جهة أو هيئة يفترض أنها معنيّّة بالقيام بهذا الــدور، كـوزارة الثقافة، ورابطة الكتاب، واتحاد الناشرين، وغير هــذه الـجـهـات، «لـكـن الــواقــع غير المفترض»، فالوزارة ما زالت تعمل بشكل نمطي، محكومة بقلّّة الموازنة المخصصة لها، ولا يخلو الأمر من البيروقراطية والروتين. وتــابــع أن الـرابـطـة تـعـانـي مـنـذ ســنــوات من فـقـدان الـــدور، وقـلّّــة التفاعل الـداخـلـي، وتدني قدرة التشبيك مع الهيئات والروابط المماثلة فـــي خـــــارج الأردن ووســــائــــل الإعلام الـعـربـيـة المعنيّّة بالثقافة وصناعة الكتّّاب، مضيفًًا أن اتـحـاد الناشرين الأردنـيـيـن مـن أقـل الاتـحـادات العربية حـيـويّّــة، بـالإضـافـة إلــى تـراجـع مستوى الصحافة الثقافية المحليّّة وقدرتها على إيصال الكاتب والكتاب، لهذه الأسباب وغيرها، فيجد المبدع الأردنـي نفسه عاريًًا حين يخوض غمار محاولة الوصول إلى الخارج، ويبقى جهده أقرب إلى الجهد الفردي. الترجمات العربي ّّة.. «صورة غير مشرّّفة» وفي الحديث عن واقع الترجمة والنشر في الأردن، أشار الصحفي والمترجم داود سليمان القرنة إلــى عــدة نقاط مهمة تتعلق بالصناعة الــثــقــافــيــة والـــنـــشـــر، مــــؤكــــد ًًا أهــمــيــة الـمـتـرجـم الـحـقـيـقـي، وضـــــرورة أن يــكــون إنــســانًًــا صــادق ًًــا ومحترم ًًا، لا يكذب أو يغش، ولا يحمل شهادات مزورة. وتابع «يجب على المترجم أن يعرف قيمته ومكانته ودوره فـي نشر الــثــراء الـفـكـري، وأن يكون مثقفًًا وواعــيًًــا، وأن يتعلم مـدى الحياة، إذ إن الترجمة ليست مجرد مهنة بل هي «فن وعلم وأخلاق». وأشـــــار الــقــرنــة إلـــى الــتــحــديــات الــتــي تـواجـه المترجمين والكتاب فـي الأردن عـديـدة، إذ إن السعي للحصول على دار نشر محترمة وذات ميزانية جيدة يُُعد أمرًًا صعبًًا على المترجمين، مـوضـحًًــا أن الكثير مـن دور النشر تطلب من المؤلفين دفع مبالغ مالية مقابل خدماتها، مما يعيق العديد من المشاريع الإبداعية. وبـيّّــن أن التحديات المالية والتمويل هي «العائق الرئيسي»، إذ إن بعض المؤسسات، مثل تلك الموجودة في السعودية، تحصل على دعم حكومي يتيح لها نشر الكتب دون الحاجة إلـــى تـحـمـل تـكـالـيـف عـالـيـة، بينما فــي الأردن، يتطلب الأمر من المؤلفين دفع تكاليف الترجمة والنشر، م ّّا يزيد من صعوبة العمليّّة. وتطر ّّق القرنة إلى تفاصيل تزيد العبء على عملية الترجمة، مشيرًًا إلـى وجــود مواصفات دقيقة يجب الالتزام بها في الطباعة والتغليف. وتـابـع «عملية الترجمة ليست مجرد نقل للمعاني، بـل تتطلب مـهـارات خاصة ومعرفة عميقة بالمصطلحات الـثـقـافـيـة والـعـلـمـيـة»، مــشــيــرًًا إلـــى أهـمـيـة اخــتــيــار الـكـتـب الــتــي يتم ترجمتها. ويـــــرى أن الــكــثــيــر مـــن الــكــتــب الـــتـــي تُُــخـتـار للترجمة قـد تـكـون غير متناسبة مـع الثقافة العربية، م ّّا يثير تساؤلات حول القيمة الثقافية لهذه الترجمات، إذ إن الترجمة ليست مجرد نظريات بل هي علم وفن، بكونها عملية إبداعية، «وهي فن مثل اللحن الموسيقي قد يؤديه كل عازف بطريقته». وتابع «رغم أن قيمة سوق الترجمة العالمية مـلـيـار دولار، لا يـــزال هناك 23 تــقــدّّر بـحـوالـي نقص في المحتوى المترجم من العربية إلى اللغات الأخــرى، مما يتطلب اهتمامًًا أكبر من المؤسسات الثقافية». وعن واقع الترجمة في العالم العربي، يقول القرنة «لا أريـد أن أقـدم صـورة قاتمة عن حالة الترجمة في الوطن العربي، لكنها ليست صورة مــشــرّّفــة ولا تــرص ََــد لـهـا الـمـيـزانـيـات والـــمـــوارد المطلوبة، على الرغم من وجود وزارات للثقافة وجمعيات وكليات ومعاهد للترجمة في معظم هذه الدول ومشاريع محفزة على الترجمة، لكن النتائج لا تزال غير مرضية». ويرى أن جودة التكوين اللغوي لدى الشباب العربي تدهورت، «باتوا عاجزين عن التعبير بلغة عربية سليمة سلسة خالية من الصيغ الرقيقة والتعابير السقيمة والأخــطــاء الفظيعة»، مّّا يعكس حاجة ملحة لتحسين مستوى التعليم والتدريب في هذا المجال. ودعـــا الـقـرنـة إلـــى ضــــرورة دعـــم المترجمين والكتاب في الأردن، وتوفير بيئة مناسبة لهم، مما سيساهم في تعزيز الثقافة والإبـــداع في البلاد، مؤكد ًًا أهمية الترجمة كوسيلة للتواصل الثقافي تعكس التنوع والغنى الثقافي للعالم العربي. الأدب المقاوم قـال الصحفي والكاتب والأكاديمي الدكتور محمد ناجي عمايرة إن مفهوم الادب المقاوم واســـع ويـجـب تـحـديـده، فـهـذا الـعـنـوان عريض ويندرج تحته عناصر كثيرة، وتابع «أفترض أن المقصود منه هو المقاومة الأدبية والثقافية للاحتلال الصهيوني لفلسطين». ويرى أن أدب المقاومة في فلسطين يعود بــجــذوره إلــى بــدايــات الـقـرن الـعـشـريـن، عندما احتلت بريطانيا وفرنسا الأراضـــي العربية في بلاد الشام ومصر والجزيرة العربية بعد الحرب العالمية الأولـــى، واتفاقيات «سايكس بيكو» التي تخلت فيها بريطانيا عن وعودها لشريف مكة المغفور له الملك الحسين بن علي، الذي قـاد الـثـورة العربية الكبرى ضـد الحكم التركي «الـعـثـمـانـي»، وخــاصــة حـكـم حـــزب اللامـركـزيـة «الاتحاد والترقي»، وبالمقابل عملت على تنفيذ وعد بلفور لليهود بالهجرة إلى فلسطين ودعمت فكرة إقامة وطن قومي لهم في فلسطين. وتـــابـــع: «مــنــذ ذلـــك الـحـيـن أخــــذت مـوجـات الــمــهــاجــريــن الــيــهــود الـصـهـايـنـة بــالــتــدفــق إلــى فـلـسـطـيـن لـيـقـيـمـوا مــســتــوطــنــات لــهــم فـيـهـا، واســتــشــعــر الـــعـــرب عــمــوم ًًــا والـفـلـسـطـيـنـيـون خـصـوص ًًــا خطر الاسـتـيـطـان الصهيوني وأخـــذوا يشكلون الجمعيات السياسية التي تهدف إلى مقاومة الاستيطان. وأضـــاف أن الشعراء والأدبـــاء فـي فلسطين والـــدول العربية كـانـوا طليعة واعـيـة على ذلك الخطر الـداهـم، وقـد واكــب الأدب الفلسطيني والعربي مختلف التوجهات السياسية والثقافية وحــتــى الـــثـــورات الـمـسـلـحـة الــتــي انـدلـعـت في مـواجـهـة الاحــــتلال الـبـريـطـانـي الـــذي أخـــذ صفة «دولة منتدبة». وأشار عمايرة إلى الشاعر عبد الرحيم محمود الذي كان يقود إحدى فصائل الثوار الفلسطينيين ، واستشهد في معركة «الشجرة»، ١٩٢٩ عام وترك العديد من القصائد والأعمال النثرية التي كـانـت تحث على المقاومة المسلحة، ومنها قصيدته الشهيرة التي يقول فيها: «سأحمل روحي على راحتي وألقي بها في مهاوي الردى فإما حياة تسر الصديق وإما ممات يغيظ العدا ونفس الشهيد لها غايتان ورود المنايا ونيل المنى». وذكر عمايرة ، والذي شغل منصب أمين عام وزارة الثقافة الأردنـيـة، أن الشعراء في الأردن وفي فلسطين كانوا يتبارون في تعزيز الثورة، وتقدير دور المجاهدين، متابعًًا «كــان الشعر المقاوم في تلك الفترة يلهب حماس الشباب لينضموا إلى الثوار في مواجهة الغاصبين». وقـــال إن الـشـعـراء الأردنـيـيـن كـانـوا يعبرون عن الحالة الأردنية والعربية الرافضة للعدوان والاحـــــــــتلال والاســـتـــيـــطـــان والـــمـــتـــضـــامـــنـــة مـع فـلـسـطـيـن وأهـــلـــهـــا، ووقـــفـــوا جــنــبًًــا إلــــى جنب مــع شــعــراء فـلـسـطـيـن، حـامـلـيـن وهـــج الــثــورة والمقاومة في تلك الفترة المبكرة من بدايات الهجرة الصهيونية الغازية. وفـي هـذا السياق، أشـار إلـى أسماء شعراء «كـــبـــار» مـثـل مصطفى وهــبــي الــتــل «عــــرار»، وحسني فريز، وابراهيم طوقان، وعبد الكريم الكرمي، وحسني زيد الكيلاني، ورفعت الصليبي ،١٩٣٦ فــي الـمـراحـل الـتـي تـلـت وخلال ثـــورة م الـتـي س ُُميت ١٩٤٨ ا إلـــى حـــرب عـــام وصــــول ًا «نكبة فلسطين»، والتي انتهت إلى قيام الكيان الصهيوني الاستيطاني تحت مسمى «دولــة إسرائيل». وتابع: «أنـا هنا أفتح قوسين، لأضـع الشعر الـذي عبّّر عن تلك النكبة ومـا جرته من مآس على فلسطين وعـلـى الأمـــة كلها، والـــذي كان يبث في النفوس الآمال باستعادة الأرض وإنهاء الاحتلال». وأضـــاف أنـه فـي ظـل تلك الـظـروف الصعبة، و ُُلدت حركات مقاومة كثيرة على مدى عشرين عامًًا، وكان الشعراء الأردنيون والفلسطينيون والعرب يشحذون إبداعاتهم للدفاع عن الأمة وقضيتها الأساسية، قضية فلسطين المحتلة . وأشـار عمايرة إلى أعمال وإبداعات شعرية عبرت عن تلك المأساة والمعاناة الفلسطينية والعربية، وظلت تحرص على تعزيز دور الشعر فـــي مــقــاومــة الـمـحـتـلـيـن وكــشــف مخططاتهم والحث على الوحدة العربية في مواجهة تلك الأطماع والعمل على تحرير الأرض والإنسان، وإلى قائمة الشعراء والكتاب والمبدعين الذين عـبـروا عـن واقــع تلك المرحلة وتطلعات أبناء الأمـــة العربية والإسلامـــيـــة، مبينا أنـهـا «قائمة طويلة لــم تقتصر على فلسطين والأردن بل امتدت إلى مختلف أقطار الوطن العربي». وقــال عمايرة إن فـي فترة «النكسة» ظهر شـعـر الـمـقـاومـة الفلسطينية الــــذي كـــان من نتاج شعراء فلسطينيين في الأرض المحتلة ومنهم حنا أبـوحـنـا، وتوفيق زيــاد، ١٩٤٨ عــام ومحمود درويـــش، وسميح القاسم وغيرهم، واصـفًًــا هـذا الشعر بــ «نكهة جـديـدة» فـي إطـار الشعر المقاوم، لأنـه صـادر من شعراء عاشوا ويلات الاحـــتلال وعـبـروا عـن معاناتهم،وتلقف الشباب الأردنـــي والفلسطيني والـعـربـي عامة هـذا الشعر باهتمام شديد، وحفظوه، وردوه، لأنه كان يحيي لديهم الآمال بالتحرير والمقاومة والنصر. وتابع:»أعيد نشر نتاج هؤلاء الشعراء واهتم بـه أســاتــذة الـجـامـعـات وطلبتها، ونـشـرت عنه دراسات تفصيلية لسنوات عديدة تحت مسمى أدب المقاومة، وشعر المقاومة»، موضحًًا أن كـتـاب الـكـاتـب والـــروائـــي غـسـان كنفاني «أدب المقاومة» فاتحة تلك الـدراسـات، وتلته كتب عديدة مماثلة لرجاء النقاش، وغالي شكري، وعبد الرحمن ياغي وغيرهم . «أكتب هذه الإجابة مستندا إلى الذاكرة، وقد كنت في تلك الفترة التي تلت نكسة حزيران طالبًًا في الجامعة الاردنـيـة وكـان جيلنا مهتمًًا أشد الاهتمام بشعراء المقاومة الفلسطينية وبالشعر المقاوم عامة». وقــــال عــمــايــرة إنــــه يــســوق هــــذه الــذكــريــات ليصل إلى نتيجة أولية، مفادها أن التواصل بين الأجيال لن ينقطع، وأن الاستمرار في المقاومة وإسناد فكرتها ودورها وأهدافها لم ولن يتوقف، وأن الاجيال الجديدة «متعطشة» إلى المزيد، ولعلها بوقوفها إلى جانب أبطال المقاومة في غزة وكل فلسطين بعد عملية طوفان الاقصى، ومــــا تلاهــــا مـــن تـــطـــورات و عـــــدوان إسـرائـيـلـي أمريكي. وتـابـع: «لعلها تعطي الإجـابـة الشافية على الـتـسـاؤل عـن أثــر الـمـقـاومـة والـنـتـاج الشعري والأدبي المتصل بها في فلسطين والأردن، وعلى الصعيد العربي، ما يؤكد أن القضية حيّّة، وأن المسيرة مستمرة، وأن الأجيال الجديدة ليست متلقية فحسب، بل هي منتجة ومبدعة وقادرة على حمل الراية والرسالة وتحقيق الطموحات في التحرير والعودة وأن طال المدى». يقول الشاعر والأديب الأردني الدكتور حكمت النوايسة إن الكتب تأتي بعد المقاومة، وفي أثناء المقاومة، وربما تكون الكتب هي المقاو ِِمة التي عرضت مقاومة شعب أو شعوب أخرى سابقة، أو تعرض لشخصيات شكّّلت أيقونات مـقـاومـة مـثـل «جـــيـــفـــارا»، و»غــــانــــدي»، وعمر المختار، والمفد ّّى زكريا، وعيسى العو ّّام، وعلي بن أبي طالب، وغيرهم، م ّّا يشكّّل عمقًًا نفسيًًا للمقاوم، ويزيد عدد المقاومين. وأضـاف أن كل الكتب التي تتناول التجارب المقاومة، أو التي تحث على المقاومة هي رموز جيدة للأدب المقاوم، متابع ًًا «ولا يمكن أن نقول الكتاب الفلاني وغيره فقط،وهناك روايـة مثل «رجـــال فـي الشمس»، وأشـعـار راشــد حسين ودرويش، والقاسم وغيرهم كثير». ويـرى النوايسة أن المقاومة نفسها تحتاج إلى توضيح، فهي تبدأ من مقاومة المحتل ولا تنتهي بالمقاومة الاجتماعية خلال العيش في مجتمع متحفظ، «ولا أقـول محافظ»، فتقاوم الـــرواســـب الـسـلـوكـيـة الـنـكـوصـيـة الانـتـكـاسـيـة، وتتعب في ذلك كثيرًًا. وقال النوايسة إن الأدب المقاوم سيؤثر بقدر معقول، ولا يمكن ذلـك إلا مـن خلال الطبقات الـسـلّّــمـيّّــة لـلـوعـي، بــــدء ًًا مــن الأســــرة والـــحـــارة، والــحــي، والــمــدرســة.. الـــخ، «ولــنــا فــي الاحـــتلال الــصــهــيــونــي الـــنـــمـــوذج الـــــذي لا يـمـكـن نـسـيـان بشاعته». وفـي السياق ذاتــه، يـرى جهاد الرنتيسي أن المقاومة بحد ذاتها تعبير عن حالة من الوعي، مهما كان المستوى المعرفي للمقاوم، ولذلك تزداد العناية بالكتاب في فترات نهوض الأمم، متابعًًا»لو قـارنـا زمننا الـراهـن بزمن النهوض الـــقـــومـــي والـــتـــقـــدمـــي خلال ســــنــــوات الـــحـــرب الـبـاردة سنجد تفاوتًًا كبيرًًا بين الزمنين فيما يتعلق بحركة النشر والقراءة وتكريس الوعي للاشتباك مع الآخر الاستعماري، وأعني هنا زمن ما قبل رحيل الزعيم جمال عبدالناصر في مصر، وألق الدولة الوطنية في العراق وسوريا، وحضور الاتحاد السوفيتي كرافعة لتحرر الشعوب من الاستعمار والتبعية». وأضاف أن غياب المشروع القومي ووصول الــدولــة الـقُُــطـريـة إلــى حـد الفشل حـــوّّل عملية الــمــقــاومــة إلــــى فــعــل فـــــردي يــمــارســه الأفـــــراد والمجاميع بلا مـشـروع جـامـع، ووضـعـنـا على هامش البحث عن روافع. وعن الكتب التي تعتبر رمزًًا للأدب المقاوم، ينحاز الرنتيسي «عالميًًا» إلى نتاجات «فرانز فــانــون»، مـشـيـرًًا إلــى الـعـديـد مـن الكتب التي راكمها الكتّّاب الـعـرب خلال سـنـوات النهوض الـــقـــومـــي، وفــــي ذروة الاشـــتـــبـــاك مـــع الــغــرب الاستعماري وذراعـــه الصهيونية في المنطقة العربية، بـدءًًا بكتابات غسان كنفاني، ويوسف إدريــــــس، وأمـــــل دنـــقـــل، وصـــنـــع الله ابــراهــيــم، والطاهر وطار، ومرورًًا بنتاجات المشتبك غالب هلسا، الذي كان أيقونة في ديناميكية التفكير، والجرأة، والانحياز للفكرة، «أعود إليها بين الحين والآخر». 3 الملف موردات الثقافة العربي ّّة.. الإعلام والفن والمكتبة نماذج ًًا.. ࣯ إشراف: ࣯ ج ود مقدادي � س ࣯ ي عياصرة � ن � إعداد: عو ࣯ دانه داود القرنة ࣯ رؤى العمري ࣯ حمزة زقوت ما دور المكتبة العربية في بناء ثقافة الشعوب العربي ّّة؟ المكتبة العربي ّّة.. من معقل للعلم والأدب إلى غياب مؤثر في ركب الحضارة ٢ ج

RkJQdWJsaXNoZXIy NTAwOTM=