٢٠٢٤ كانون الأول 15 _ ١٤٤٦ جمادى الآخرة 14 الأحد في زمن أصبحت فيه أشد الحروب فتك ًًا تخاض في ميادين الفكرة لا على ساحات السلاح، تمتلك الثقافة قوة ناعمة في سبيلها تغيير واقع الشعوب، وغرس الهوي ّّة في وجدانها، وصياغة وعيها أمام التيارات المعاكسة وحروب الفكر التي تسعى لأن تنسيها نفسها ومن تكون، وفي هذا السياق، يُُعد الإعلام والفن والأدب أُُطر ًًا أساسية تجس ّّد موردات الثقافة التي تقاوم هذا التآكل، وتساعد الشعوب على أن تتنق ّّل بين فصول تاريخها وتصنع واقعها ومستقبلها. فهذه الصور الثلاث من موردات الثقافة العربي ّّة، تعد نوافذ ًًا مشر ّّعة على العالم، بإمكانها أن تقد ّّم الفكرة وتؤط ّّرها وترس ّّخها، فتنق ُُل الناس بذلك إلى أبعاد بإمكانها أن توس ّّع إدراكهم وتثري ذاكرتهم الجمعية، وبإمكانها أيض ًًا أن تنقلهم إلى أبعاد أخرى ترس ّّخ في عقولهم أفكارًًا مشو ّّهة واتجاهات هد ّّامة، كما يفعل اليوم الإعلام والأدب الموج ّّهان، والفن الاستهلاكي. منذ بـدايـة ظـهـور التلفزيون والسينما في العالم العربي، أصبحت المسلسلات والأفلام من أبرز الوسائل التي ت ُُعبر عن واقع المجتمعات العربية، وتعرض قصص ًًا تلامس هموم الناس، وتــعــكــس قــضــايــاهــم الاجــتــمــاعــيــة والـثـقـافـيـة، لتصبح هذه الصناعة إحدى أكثر الوسائل تأثيرًًا في تشكيل الوعي الجمعي، وتقديم نماذج تُُعزز الهوية الثقافية، بالإضافة إلـى دورهــا في نقل الرسائل باختلافها وعلى جميع الأصعدة. ومع ذلـك، يعاني المحتوى الدرامي العربي في الوقت الحالي من تحديات كبيرة وتراجع في المضمون، إذ أصبحت غالبية الأعمال تفتقر إلى الرسالة العميقة والتوجه الثقافي الواضح، لتحل محلها مسلسلات وأفلام تركز أكثر على الـتـرفـيـه الـسـطـحـي والأربـــــاح الــمــاديــة، م ّّـــا يؤثر بشكل حقيقي وكبير على فكر المشاهد العربي سلبًًا ويجعله يستسيغ مـــدخلات وأفـكـار قد لا تناسبه بالضرورة، وتصرف تركيزه عن قضاياه المحورية وواقعه وتجعله يتبنى واقعًًا آخـر لا يشبهه. وفـــي هـــذا الـمـلـف، نــذهــب لـتـسـاؤل جـديـد: كيف يمكن للسينما والمسلسلات العربية أن تتمس ّّك بدورها الثمين في بناء الثقافة وتوجيه الفكر؟ وهل يوجد اليوم أعمال درامية إيجابية استطاعت أن تُُقد ّّم محتوى يحقق التوازن بين الجذب الجماهيري ورفد الثقافة؟ يـــقـــول نــقــيــب الــفــنــانــيــن الأردنــــــــي الأســـبـــق والممثل ساري الأسعد إن الدراما العربية كانت قبل عشرين عام ًًا أكثر رسوخ ًًا وقـوة، إذ كانت تعكس وجع الناس وآلامهم ومعاناتهم، وتتناول هموم المواطن العربي بصدق وواقعية. وأضاف أن الدراما في تلك الفترة كانت تحمل طابعًًا محليًًا يعبّّر عن قضايا المجتمع، متابعًًا أن الإنتاجات في مصر «على سبيل المثال»، كانت تتناول هموم المواطن المصري، وفي الأردن تعكس معاناة المواطن الأردنـي، وهكذا في مختلف الدول العربية. ويـــرى الأســعــد أن الـــدرامـــا الـعـربـيـة شهدت تراجع ًًا كبيرًًا خلال السنوات الأخيرة، سواء من حيث المحتوى أو التقنية، إذ إن الصورة أصبحت هي العنصر الطاغي على المشهد، بينما غاب المضمون والهدف عن الأعمال الدرامية. وأوضح أن هذا التراجع دفع الجمهور العربي للتوجه نـحـو الأعــمــال الـتـركـيـة الـتـي تـركـز على الـرومـانـسـيـة والـــعلاقـــات الاجـتـمـاعـيـة، وتجذب المشاهدين بأجوائها الـفـاخـرة، مثل القصور، والملابس الراقية، والمكياج. خيبة أمل وأعـــــــرب الأســــعــــد عــــن «خـــيـــبـــة أمــــلــــه» مـن الــمــؤســســات الـمـعـنـيـة بــالإنــتــاج الـــدرامـــي في ا إن هذه المؤسسات لم تنجح في الأردن، قـائلًا عـكـس واقـــع الـشـعـب الأردنــــي أو مـعـانـاتـه عبر شاشة التلفزيون، مّّــا جعل الـمـواطـن الأردنــي يشعر بالاغتراب عن هذه الأعمال. وتابع أن الدراما الحالية أصبحت «سطحية وبـسـيـطـة»، وتفتقر إلـــى الـعـمـق والـمـضـمـون، وأن بعض الأعمال تقتصر على أفكار تقليدية وغـيـر مـتـطـورة لا تتماشى مـع الـوقـت الحالي، ا «الدراما العربية تعيش أسوأ مراحلها في قائل ًا الوقت الحالي». ويـــرى الأســعــد أن أحـــد الأســـبـــاب الرئيسية لتراجع الدراما العربية هو غياب المنتج الوطني، مشيرًًا إلـى أن رأس المال الوطني سابقًًا كان حريص ًًا على تحقيق التوازن بين الربح وتقديم محتوى يخدم مصلحة الوطن والمواطن. وتابع أن هذا النوع من المنتجين كان يسعى لإنـتـاج أعـمـال درامـيـة تعكس توجهات الـدولـة وهموم الأمة بشكل صادق ومسؤول. وقال الأسعد إن تراجع الدراما تفاقم بسبب انسحاب الحكومات من دعـم الإنـتـاج الدرامي في العديد من الـدول العربية، وتركها الساحة لــشــركــات الإنـــتـــاج الـــخـــاصـــة، مــوضــح ًًــا أن هــذه الـشـركـات، «الـتـي يهمها تحقيق الـربـح فقط»، باتت تهتم بالمكاسب المادية دون الاكـتـراث بـــجـــودة الــمــحــتــوى أو الـــرســـائـــل الــتــي تقدمها الأعمال الدرامية. وأضاف أن الاتجاه العام للدراما أصبح بعيد ًًا عن هموم ومشاكل المواطن العربي، مّّا أدى إلى ظهور أعمال يغلب عليها طابع الـ»فانتازيا»، وأعمال غربيّّة «لا تمثلنا». وأشــــار الأســعــد إلـــى تــوج ّّــه بـعـض الـشـركـات الرأسمالية نحو شراء حقوق إنتاج المسلسلات التركية وتعريبها بممثلين عرب، ما أسفر عن ظهور نسخ ضعيفة ورديـئـة من هـذه الأعمال، التي لا تعبر عن واقعنا العربي بأي شكل. وتابع: «هذا الوضع يعكس حالة من التبعية الثقافية، إذ أصبحت الدراما العربية تسير خلف ا مـن أن تـكـون قائدة شـعـوب ودول أخـــرى بـــدلًا ومـصـدرًًا للإبـــداع الفني والثقافي»، معربًًا عن أسفه لغياب الـدرامـا الحقيقية والفن الصادق والمشهد الثقافي المؤثر. وأشــــار الأســعــد إلـــى الـتـأثـيـر الـكـبـيـر للحركة النقدية على تطور الــدرامــا، موضحًًا أن وجـود حركة نقدية موازية للدراما يُُعد ضرورة لتحفيز الإبداع وتطوير الإنتاجات. وأضاف أن غياب النقد يجعل المشهد الثقافي «بائس ًًا وضعيفًًا»، وهـو مـا حـدث فـي الساحة الدرامية العربية منذ أكثر من ثلاثين عامًًا، إذ غـابـت الـحـركـة الـنـقـديـة عــن مــجــالات المسرح والتلفزيون وحـتـى السينما، مـوضـحًًــا أن هذا الغياب أسهم بشكل مباشر في انحدار الذوق العام وجعل الأفكار سطحية، إلى جانب الابتعاد عـــن مـعـالـجـة الـقـضـايـا الـعـمـيـقـة والــمــشــكلات الحقيقية التي تهم المواطن العربي. وتابع: «نتيجة لذلك، أصبحت الدراما العربية بعيدة عن هموم الـنـاس، م ّّــا أدى إلـى فقدانها قدرتها على جذب الجمهور»، مشير ًًا إلى أن هذا الابتعاد انعكس سلبًًا على علاقـة المشاهدين بالأعمال الدرامية، إذ إنهم باتوا أقل اهتمام ًًا بها ا معها. وأقل تفاعلًا وذكـــــر الأســـعـــد أن الـــرقـــابـــة عــلــى الــقــنــوات الفضائية اليوم «ليست كما كانت قبل أربعين عامًًا وأكثر»، مشيرًًا إلى أن القنوات الرسمية مثل التلفزيون الأردنـي والتلفزيون السعودي مــا زالـــت تخضع لـرقـابـة تضمن احــتــرام القيم والعادات. وقال إن القنوات الفضائية باتت شبه خالية من الرقابة، م ّّا سمح بإنتاج وبث أعمال لا تليق بالقيم والـمـبـادئ المجتمعية، خصوص ًًا خلال شهر رمضان. وأضــــاف الأســعــد أن هـــذه الـقـنـوات تستغل شهر رمـضـان، الــذي يُُفترض أن يكون موسم ًًا لأعمال راقية وملتزمة، لتقديم محتوى بعيد عن قيمنا وعاداتنا وأخلاقنا، مشير ًًا إلى أن بعض الشركات المنتجة لهذه الأعمال تتبنى أجندات تهدف إلى تخريب الذوق العام، والتأثير السلبي على المشهد الثقافي والاجتماعي الذي يرتبط بعاداتنا وتقاليدنا. وتابع أن شهر رمضان لم يعد كما كـان في الماضي، إذ إن الأعمال الدينية والتاريخية مثل «عـلـى هـامـش الــســيــرة»، و»الـفـجـر العظيم» كانت تحتل مكانة بــارزة، وتعكس روح الشهر ا إن هـــذه الـنـوعـيـة مــن الأعـمـال الـفـضـيـل، قــــائلًا أصبحت «نادرة»، وزاحمتها إنتاجات تفتقر إلى الارتباط بقيمنا ومبادئنا. ويرى الأسعد أن الفنان نفسه يجب أن يكون رقيبًًا على أعماله، موضحًًا أن الالـتـزام بالقيم والمسؤولية الفنيّّة لا يمكن أن تُُفرض بالكامل من الخارج. وجود «شكلي ّّ»! وأشـــار الأسـعـد إلــى أهمية الـــدور الأسـاسـي للأنظمة والقوانين فـي دعـم وتطوير المشهد الـثـقـافـي والــفــنــي فــي أي بــلــد، مـــؤكـــد ًًا ضـــرورة تشريع القوانين بما يخدم هذا المشهد، بهدف تعزيز الهوية الثقافية والفنية وتطويرها بما يواكب التحديات والمتغيرات المعاصرة. وتـابـع: «إن وجــود وزارة للثقافة لدينا يبدو شكليًًا فـقـط، وكــأنــه لإثــبــات وجـــود ثـقـافـة أمــام الدول الأخرى التي لديها وزارات ثقافة». ويــرى الأسـعـد أن المشهد الثقافي والفني في الأردن وصل إلى درجة من التراجع والبؤس قد تؤدي إلى «اختفائه تمام ًًا» خلال السنوات الــــقــــادمــــة، واصــــف ًًــــا هـــــذا الــــحــــال بــــ»الـــمـــؤســـف والمقلق». وأعرب عن حزنه العميق لما وصل إليه حال الثقافة والفن في الأردن، مشيرًًا إلى أن الدولة تخلّّت عن دورها في دعم هذا المجال، وكذلك فعلت المؤسسات المعنية بالثقافة والفنون، بما في ذلك التلفزيون الأردني ووزارة الثقافة. ا ًا وتابع: «أصبح يُُنظر إلى الفن باستهجان، بدل مـن كونه أداة هامة تعبّّر عـن الهوية الوطنية وتخدم المجتمع». ماض «م ُُزدهر» وحاضر «م ُُحزن» وقــــال الــفــنــان الــمــصــور شــريــف عـصـفـور إن الــــدرامــــا الأردنــــيــــة شـــهـــدت أوج ازدهــــارهــــا في سبعينيات القرن الماضي، حيث برزت أعمال ضخمة، مثل «هـــارون الرشيد»، و»حــدث في الــمــعــمــورة»، إلـــى جـانـب أســمــاء لامــعــة، مثل «زهير النوباني»، و»محمد القباني»، و»عبير عيسى». وتــابــع أن المشهد الـــدرامـــي الأردنــــي حينها كــان منافس ًًا قـويًًــا بفضل الإنـتـاجـات الضخمة والــشــركــات الـمـتـعـددة الـتـي وصـلـت إلـــى أكثر ا ًا من عشرين شركة إنتاج، مّّا خلق سوقًًا حافل ومتنوع ًًا للأعمال الفنيّّة. ووصف التحول الكبير الذي طرأ على صناعة الــدرامــا الـيـوم بـالــ «مــحــزن»، إذ أصـبـح التركيز ا عـن تقديم منصبًًا على الكسب الـتـجـاري بـــدلًا فـن حقيقي، مشيرًًا إلـى أن المُُنتِِج أصبح هو «المسيطر الأول» على الــقــرارات الفنيّّة، في حين تراجعت أهمية دور المخرج والكاتب. وأشار عصفور إلى أزمة التمويل التي «تزداد ا إن الدراما المحلية تواجه منافسة تعقيد ًًا»، قائل ًا شديدة من الإنتاجات ذات الميزانيات الضخمة، م ّّا يؤثر سلبًًا على تقديم محتوى قوي ينافسها. ولــفــت إلـــى وجــــود خـلـل فـــي عـمـلـيـة اخـتـيـار ا «الــمــمــثــلــون الـــيـــوم لا يتم الـمـمـثـلـيـن، قــــــائلًا اخـتـيـارهـم بـنـاء على الموهبة أو الـكـفـاءة، بل بناء على التكلفة الأقل أو المحسوبيات، وهذه ا ضعيفة غير متماسكة الممارسات تُُنتج أعمالًا تعاني من قصور في الأداء والجودة الفنية». وفي ظل هذا الواقع «المؤلم»، أشار عصفور إلـــى بـعـض الـــمـــبـــادرات الإيــجــابــيــة، مـثـل جهود «الهيئة الملكية الأردنية للأفلام»، التي تسعى لدعم الإنتاجات المحلية وإبراز المواهب، متابع ًًا ا لتحقيق نقلة نوعية في «الطريق لا يزال طويلًا المشهد الدرامي الأردني». ودعا إلى ضـرورة تفعيل دور الإعلام الأردني فـي دعـم الإنـتـاج الفني، مشيرًًا إلـى أن الإعلام يجب أن يكون شريكًًا رئيسيًًا في تعزيز صناعة الــــدرامــــا الـمـحـلـيـة، ســــواء مـــن خلال الــتــرويــج للأعـمـال الفنية أو تبني مـبـادرات تدعم زيـادة الإنتاج وتطوير المحتوى. من جانبه، قال القاص والناقد الدكتور شفيق طه النوباني إن النقد السينمائي والدرامي يؤدي الـــدور الـــذي يـؤديـه فـي الأدب عـــادة، فهو يقوّّم ويفسر بالانطلاق من المرجعيات التي يحتكم إليها، ولا شك أنه كثيرا ما يتجاهل الأعمال التي لا ترقى إلى المستوى الفني المنشود. وبي ّّن النوباني أن المتلقي لا يتجه نحو المادة الـنـقـديّّــة الـمـكـتـوبـة، «بـــل تـجـده أكـثـر اهتمام ًًا بوسائط الاتصال المرئي، وغالبًًا ما تبتعد هذه الــوســائــط عـــن الـنـقـد الـتـحـلـيـلـي، لـتـرتـبـط أكـثـر بالمواد الترفيهية التي تتعلق بقصص النجوم، ولــكــن ذلـــك لا يـنـفـي اهـتـمـام الـبـعـض بـالـمـواد النقدية الجادة». وأشــــار الـنـوبـانـي إلـــى أن الأعـــمـــال الـدرامـيـة الــمــعــروضــة تــــؤدي «دورًًا كــبــيــرًًا» فـــي اخـتـيـار الـمُُــشـاهِِــد للعمل الـــذي يُُــتـابـعـه، «فالمتلقي أمام خيارات محدودة تقدمها الفضائيات الأكثر رواج ًًــا، كما أن الأعمال المدبلجة المقدّّمة عبر هذه الفضائيات تعب ّّر عن رؤى ترتبط بمجتمعات وثقافات أخرى، م ّّا يعزز فكرة المشاهدة لغاية المتعة الخالصة التي ترتبط بالاستهلاك اللحظي دون ملامــســة قـضـايـا تـخـص الإنـــســـان العربي بصورة مباشرة». الإنتاج هو السبب.. وأوضـح النوباني أن إنتاج الأعمال الدرامية بطبيعته يحتاج إلى تمويلات كبيرة، مّّا يجعل جودة العمل ورؤيته وكل ما فيه مرهونًًا بمدى قـبـول الإنــتــاج لـهـذه الــــرؤى، «وكــثــيــرًًا مــا يــؤدي احتكام العمل الفني إلى الشركات المنتجة إلى تراجع جودته». فيما يـرى المخرج الأردنــي محمد الحشكي أن تـوجـهـات الأعــمــال الــدرامــيــة تعتمد بشكل كبير على الجهة المنتجة، الـتـي تلعب الــدور الأساسي في تحديد ما إذا كان العمل سيحمل رسالة اجتماعية أو يقتصر على الترفيه، موضح ًًا أن هذه القرارات تتأثر بطلبات الجمهور وسوق الإعلانات، إذ تسعى الجهة المنتجة دائم ًًا لتلبية ما يحقق العائد المادي الأكبر. وأشـــــــار الــحــشــكــي إلـــــى أن غـــيـــاب الــقــضــايــا الـسـيـاسـيـة عـــن الأعـــمـــال الـــدرامـــيـــة يــعــود إلـى سيطرة عدد محدود من القنوات المنتجة التي تفرض رؤيتها على الـسـوق، وهـذا الـواقـع يضع صنّّاع المحتوى أمام خيار «التماشي» مع هذه التوجهات إذا أرادوا أن تُُعرض أعمالهم. ووصــــف الـحـشـكـي الـسـيـنـمـا الأردنــــيّّــــة بأنها فـي وضــع «مـمـتـاز»، إذ تحقق الأفلام الأردنـيـة نجاحات كبيرة وتصل إلـى مهرجانات عالمية، مــع مضامين ثـريـة تـنـاقـش قـضـايـا مهمة في المجتمع، بينما يعاني التلفزيون من «ضعف واضـــح»، ما يجعله بعيدًًا عن المستوى الذي يمكن أن ينافس به. ،2018 وفي تقرير للصحفي محمد فاوي عام ضمن برنامج «هذا الصباح» على قناة الجزيرة، ذكر أن الكثير من النقاد يرد ّّون على سؤال «هل تعكس الدراما العربية الواقع العربي؟»، بقولهم إن الدراما ت ُُعد جزء ًًا عضوي ًًا من المشهد الثقافي العربي، ما يجعلها تعاني من الأزمات الهيكلية ذاتها التي تواجه بنية الثقافة العربية. وأشــــار الــنــقــاد، وفـــق الـتـقـريـر، إلـــى أن هـذه الأزمـــــات تتجلى فــي غــيــاب رؤيــــة فـنـيـة دقيقة ومُُتفق عليها للماضي، والحاضر، والمستقبل الفكري العربي. ولفت التقرير إلى وجود «شبه إجماع» حول استفادة الدراما العربية من التطور التكنولوجي الكبير في عمليات الإنتاج التلفزيوني، إذ إن هذا التطور أسهم في إخراجها من إطـار الإمكانيات التقليدية المحدودة إلى فضاءات أوسع، وأكثر قربًًا من مستوى الإنتاج السينمائي. وبـيّّــن التقرير أن الجانب الاقـتـصـادي لهذه العملية يعاني مـن تحديات هيكلية ضخمة، أبــرزهــا ارتــفــاع كلفة الإنــتــاج، واسـتـحـواذ نجوم الدراما على الحصة الأكبر من هذه التكاليف، ما يترك بقية العناصر الفنية في كثير من الأحيان بنصيب «ضئيل»، وفـق ما يؤكده العديد من النقاد. استيراد الدراما.. هروب من الواقع أم فقدان للهوية؟ يـشـيـر الـمـمـثـل الـــســـوري جــمــال سـلـيـمـان، في لقاء له مع بودكاست «هامش جـاد»، إلى ظـاهـرة لافـتـة فـي تـوجـه الجمهور الـعـربـي نحو الــدرامــا الـمـسـتـوردة، مـوضـح ًًــا أن الـنـاس باتوا يفضلون الهروب من واقعهم إلى عوالم درامية بديلة، وهذه العوالم، كما يصفها، تتميز بجمالها المثالي، حيث تُُظهر بيوتًًا أنيقة حتى لو كانت لشخصيات فقيرة، وأفـــرادًًا بمظهر «لا تشوبه شـائـبـة»، بـعـيـدًًا عــن الـمـعـانـاة الحقيقية التي تعكسها حياتهم. ونــــجــــاح هـــــذه الأعــــمــــال الـــمـــســـتـــوردة دفـــع المنتجين العرب إلـى استثمارها، لا سيما أن المحطات العربية بدأت بشرائها بأسعار زهيدة مــن المنتجين الأصـلـيـيـن الــذيــن لــم يتوقعوا رواجـهـا خــارج بلدانهم، ومــع ارتـفـاع شعبيتها، تضاعفت تكاليف شـرائـهـا إلـــى أرقــــام خيالية، تـجـاوزت فـي بعض الـحـالات تكلفة إنـتـاج عمل درامي عربي كامل. ومن هنا، برز اتجاه جديد يتمثل في تقديم نـسـخ عـربـيـة عــن هـــذه الأعـــمـــال، مــع الاحـتـفـاظ بالقصة الأصـلـيـة لكن بصيغة محلية وأبـطـال عـــرب، ورغـــم النجاح الجماهيري الـــذي حققته ا حول تراجع الهوية هذه النسخ، إلا أنها تثير جدلًا العربية في المحتوى الدرامي، خاصة أنها تقدم واقع ًًا بعيد ًًا عن الحياة اليومية في المجتمعات العربية. ويرى جمال سليمان أن الإقبال الكبير على هذا النوع من الدراما يكشف حاجة الجمهور إلى الهروب من ضغوط الحياة اليومية، لكنه يلفت الانتباه إلى ضرورة دراسة هذه الظاهرة بعمق، لفهم أسبابها الحقيقية وتداعياتها على الإنتاج الدرامي العربي ومستقبله. انعكاس صادق على الشاشة لا شك أن المشاهد العربي يتوق إلى أن يرى انعكاس ًًا صادقًًا لنفسه وواقعه على الشاشة، ا تـعـكـس تـفـاصـيـل حـيـاتـه وأن يــشــاهــد أعـــمـــالًا اليومية، وتعبر عن أحلامه وآماله، وتسبر أغوار مشكلاته وهمومه. والـــدرامـــا التلفزيونية والسينمائية، حين تـخـرج عـن إطـــار التسلية وتـغـوص فـي أعماق القضايا الإنسانية، تصبح وسيلة لتشكيل وعي المجتمعات وتعريفها بتاريخها، لتبني رابطًًا بين الماضي والحاضر، ولتكون وسيلة تساعد الشعوب على أن تدرك واقعها وتبني آمالها. فــي مسلسل أحلام كـبـيـرة، أبـــدع المخرج الــراحــل حـاتـم علي فـي تقديم عمل اجتماعي عميق يلتحم بواقع المشاهد العربي، في عمل يحاكي بساطة وتعقيدات البيت العربي في آن واحد، وتعكس أحلام ًًا كبيرة وطموحات تسكن كل بيت عربي، ومن خلال شخصياته المتنوعة وحواراته المليئة بالصدق، استطاع المسلسل أن يــكــون مــــرآة لـلـعـائـلـة الـعـربـيـة، بمشكلاتها وأحلامها وآمالها، ما جعله أحد أبرز الأعمال التي قد تشبه المشاهد وتعبر عنه. وزخر التلفزيون العربي بعدة أعمال تاريخية تجاوزت حدود الحكاية إلى إعادة إحياء التاريخ العربي برؤية معاصرة، وساهمت في إسقاط عـــــد ّّة تــــســــاؤلات لــــدى الــمــشــاهــد الـــعـــربـــي من الماضي على الحاضر، مثل أعمال المخرج حاتم علي والدكتور وليد سيف، مثل «صلاح الدين الأيـوبـي»، و»التغريبة الفلسطينية»، و»ربيع قرطبة»، إذ أثبتت قـدرة الـدرامـا على أن تكون وسيلة لفهم التاريخ، واستلهام دروسه لإحداث تغيير في الحاضر. ولــــم تـــخـــش بــعــض الأعـــمـــال الـــدرامـــيـــة من مـــواجـــهـــة الــــواقــــع الــســيــاســي الـــعـــربـــي بـــجـــرأة، وانعكست هــذه الـفـكـرة فـي عـــد ّّة أعـمـال مثل «ابتسم أيها الجنرال»، و»الولادة من الخاصرة»، و»العر ّّاب»، إذ كانت محاولات كبيرة من الدراما السورية في تناول القضايا السياسية الشائكة والأزمة السورية بتعقيداتها، وقدمت نقد ًًا حاد ًًا للنظام السياسي والمجتمع. هل يحتاج الجمهور لأعمال تحف ّّزه على التفكير في مشكلاته؟ يــرى الـكـاتـب بلال فـضـل، فـي حلقة «سلام وتحية وتأملات عشوائية في الحالة الدرامية» عبر قناته على «يوتيوب»، أن الجمهور لا يحتاج إلى أعمال تقدم له أفكارًًا جاهزة أو تحف ّّزه على التفكير في قضايا معينة، بل يحتاج إلى أعمال تعكس واقعه وتعبر عن مشاعره وهمومه. وتـابـع: «الـنـاس أكثر وعـيًًــا مما نتصور، هم فقط يحتاجون إلـى من يتواصل معهم بشكل صادق، لأن الناس يبحثون عن من يعبر عنهم، لا عن من يوج ّّههم أو يفكر نيابة عنهم». وقـــال فـضـل إن التغيير الـكـبـيـر فــي كيفية استهلاك المحتوى أدى إلى شعور البعض بأن الجميع أصبح ناجحًًا، وهـو ما يرجع جزئيًًا إلى الحملات الإلكترونية المدفوعة التي تستهدف توجيه الرأي العام حول الأعمال الدرامية، مبينًًا أن بعض النجوم يتعرضون للتضليل من خلال هـذه الحملات التي تخلق انطباعًًا زائفًًا بنجاح أعمال لم تحقق النجاح الحقيقي. وعــبّّــر فـضـل عــن اسـتـيـائـه مــن فــكــرة النقد الذي يقدمه الـ»فلوجرز» على مواقع التواصل الاجــتــمــاعــي، مـــؤكـــد ًًا أن هــــؤلاء الــنــقــاد لـيـسـوا مختلفين عن النقاد التقليديين في الصحافة الذين كانوا يقدّّمون انطباعاتهم حول الأعمال، معتبر ًًا أن ما يطرحه هؤلاء النقاد ليس أكثر من مجرد انطباعات. وأشــــار إلـــى أن «الــنــقــد الـجـمـاهـيـري» على منصات التواصل الاجتماعي أصبح واقع ًًا لا مفر منه في العصر الحالي، وأن هذه الظاهرة تشك ّّل مشكلة للمثقفين والنخب الفكرية، مستشهد ًًا بما ذكــره الـروائـي الإيطالي «أمبرتو إيكو» عن الـ»إنترنت» وكيف أتــاح المجال لـ»جيش من الحمقى» للتعبير عن آرائهم. 3 الملف موردات الثقافة العربي ّّة.. الإعلام والفن والمكتبة نماذج ًًا.. الدراما.. صناعة مؤثرة و «خطيرة» بتشكيل الوعي العربي ساري الأسعد: أحد الأسباب الرئيسية لتراجع الدراما العربية هو غياب المنتج الوطني شريف عصفور: الم ُُنت ِِج أصبح «المسيطر الأول» على القرارات الفني ّّة وتراجع دور المخرج والكاتب القاص شفيق النوباني: المتلقي أكثر اهتمام ًًا بوسائط الاتصال المرئي 3 ج ࣯ إشراف: ࣯ ي عياصرة � ن � عو ࣯ ج ود مقدادي � إعداد: س ࣯ دانه داود القرنة ࣯ رؤى العمري ࣯ حمزة زقوت
RkJQdWJsaXNoZXIy NTAwOTM=