صحافة اليرموك

٢٠٢٥ نيسان ٢٧ _ ١٤٤٦ شوال ٢٩ الأحد 4 شرفات ࣯ ج ميلة منصور � - ي رموك � صحافة ال في الوقت الذي تسعى فيه السينما العربية إلى عكس التحولات الاجتماعية والثقافية عبر تمثيل المرأة كعنصر مركزي، إلا أن العديد من الأعمال لا تزال تعيد إنتاج صور نمطية محدودة تتراوح بين تصويرها في أدوار تقليدية أو تربط نجاحها بالتخلي عن القيم الأخلاقية والانفتاح الزائد، م ّّا يشوه مفهوم التقدم والنجاح ويعزز ضغوطا اجتماعية تحد من حرية النساء في تحقيق طموحاتهن. وتتجلى هذه التناقضات بوضوح في الطريقة التي ت ُُقدم فيها المرأة الناجحة على الشاشة حيث يُُختزل التطور في سلوكيات مثيرة للجدل ترسخ فكرة أن النجاح لا يأتي إلا على حساب المبادئ ورغم بعض المحاولات لتقديم صور أكثر إيجابية إلا أن الرسائل السلبية تبقى الأكثر حضورا وانتشارا الأمر الذي يدفع للتساؤل حول دور السينما في تشكيل وعي جديد أو استمرار تكريس القوالب القديمة. بين عدسة المخرج وقلم الناقد أوضح الناقد السينمائي ناجح حسن أن السينما العربية كجزء من السينمات العالمية، قدمت صـورًًا نمطية عن المرأة، موضحا أن السبب الرئيسي لذلك هو تبعية هذه السينما للنموذج الهوليوودي السائد في صالات السوق السينمائي ومـــع ذلـــك، مـشـيـرا إلـــى وجـــود أفلام عربية قليلة استطاعت تقديم صـورة مغايرة وبديعة عن واقع المرأة ومشاركتها في القضايا الاجتماعية، والسياسية، والتنموية. وواصل حسن حديثه مسلط ًًا الضوء على بعض الأعمال التي وصفها بأنها حالات مضيئة في فضاء السينما العربية، والتي أبدعها مخرجون بــارزون مثل يوسف شاهين في فيلم العصفور، كما أثنى على تيار السينما الشابة التي أبدعها محمد خان وخيري بشارة وداود عبد السيد، لافتا إلى سينما المغرب العربي التي قدمت نماذج إيجابية عن المرأة مستشهد ًًا بفيلم «عزيزة» التونسي، وفيلم «رياح الأوراس»الـجـزائـري الـذي يصور المرأة كأم مكافحة، إلى جانب السينما السورية التي ركزت على إبراز أدوار إيجابية للمرأة في أفلام مثل «حسيبة» «وأحلام المدينة». وتطرق حسن إلى السينما العربية الجديدة التي يصفها بأنها ما زالـت أسيرة موروثها القديم في غالبية إنتاجها، مبينًًا أن العديد من هذه الأفلام تقدم صورًًا سطحية عن المرأة لا تعكس كفاحها اليومي أمام تحديات الحياة ورغم ظهور المرأة بشكل متكرر في هذه الأفلام، إلا أن حسن يرى أنها لا تزال محصورة في إطار النظرة الاستهلاكية التي تحكم المنطق التجاري للسينما. وفــــي هــــذا الــســيــاق أثـــنـــى حــســن عــلــى تـــيـــار السينما الـمـسـتـقـلـة الـــــذي قــــدم اشـــتـــغـــالات بـــــارزة فـــي السينما التسجيلية والـــروائـــيـــة، مـسـتـشـهـدًًا بـأعـمـال مـثـل «مـن ليلة» لمي 3000« الذاكرة الخصبة» لميشيل خليفي و الـمـصـري وأفلام نـجـوى نـجـار وفيلم «فــرحــة» للمخرجة الأردنية دارين سلام. وأعرب حسن عن أسفه من صورة المرأة في السينما العربية التي لم تشهد تطورات تُُذكر، مشيرا إلى أن سينما المغرب العربي كانت في الماضي تقدم صورة واقعية عن حال المرأة بشكل أفضل مما هو عليه اليوم إلى تناقضات المجتمع وغياب الوعي بحاجات المرأة المعاصرة. وفي تحليله للمشهد الحالي، يرى حسن أن السينما العربية باتت تركز على تحقيق الإيرادات التجارية والاعتماد على التمويل الأجنبي، وهو ما أدى إلى تقديم صور سطحية ومبسطة للمرأة تختلف عن التصورات الأصيلة التي كان مـن الممكن معالجتها مـن قبل صـنـاع الأفلام، معتبرا أن هـذه الأفلام غالبًًا ما تستهدف دغدغة المشاعر دون التعمق في عوالم المرأة الداخلية ومعاناتها النفسية. وأضـــاف أن المسؤولية تقع على عـاتـق صـنـاع الأفلام لتقديم صور حيوية تنبض بهموم المرأة لكنه يشير إلى أن التبعية الإنتاجية للشركات والأفـراد تجعل المخرجين يتجنبون تناول الواقع الحقيقي للمرأة ويميلون إلى تقديم صور غير صادقة عنها. وأكد حسن أهمية كسر الصور النمطية عن المرأة في السينما العربية، مشدد ًًا على ضرورة إيجاد آليات إنتاجية بديلة تضمن حرية وجهة نظر المخرج بعيدًًا عن ضغوط التمويل الأجنبي الذي يؤدي إلى تزييف الحقائق وتحويل المرأة إلى مادة استهلاكية أو فولكلورية. ودعــا حسن صناع الأفلام وخاصة الشباب منهم إلى الاطلاع عـلـى مـوروثـهـم الـغـنـي فــي الـقـصـص والـحـكـايـات المليئة بنماذج إنسانية مبدعة تصور كفاح الـمـرأة في مختلف الأدوار كـأم ومعلمة وطبيبة وعالمة وربـة بيت، مشيرًًا إلى أن هذه القصص تعكس نماذج حقيقية لنساء يواجهن العقبات والتحديات، حيث يحققن النجاح أحيان ًًا أو ينهارون تحت وطأة العادات والتقاليد السائدة. كما يـرى أن المرأة القوية، بتجاوزها لهذه التحديات، تمثل محرك ًًا أساسيًًا للنهوض بصناعة الأفلام العربية. من جانب آخر، يرى المخرج الأردني سامح شويطر أن تمثيل المرأة هو عملية دقيقة تمر بمراحل متعددة تهدف في مجملها إلـى تقديم صــورة متوازنة وحقيقية للمرأة بعيدا عن النمطية والصور التقليدية. ويقول شويطر «إن اختيار الأدوار النسائية يبدأ بفهم معمق للشخصية المكتوبة فـي النص السينمائي هنا يعمل الـمـخـرج على تحليل شـامـل للشخصية لتحديد سماتها النفسية والجسدية بالإضافة إلـى تحديد الـدور الذي تلعبه في القصة هذا التحليل يشكل الأساس لاختيار الممثلة الأنسب لتجسيد الشخصية». وأوضح شويطر أن المراحل الأولى في عملية الاختيار تشمل البحث عـن ممثلة تمتلك الــقــدرة على تجسيد الشخصية بصدق وإقناع حيث يولي المخرج اهتماما كبيرا بعناصر مثل التعبير العاطفي والخبرة السابقة والقدرة على التفاعل مع الشخصيات الأخرى. ويــــرى أن هـــذه الــعــوامــل ضـــروريـــة لـضـمـان أن تكون الشخصية النسائية أكثر واقعية وقريبة من المشاهد. وفـي السياق ذاتــه، يضيف شويطر أن عملية الاختيار ليست مـجـرد تقييم فني بـل تتطلب أيـضـا التحقق من قدرة الممثلة على الانسجام مع فريق العمل بما يشمل الممثلين الآخــريــن وفـريـق الإنــتــاج لضمان أجـــواء عمل تعاونية ومثمرة. وفيما يتعلق بتطوير الأداء التمثيلي للممثلة بعد الاخـتـيـار، شــرح شويطر أن العمل لا يتوقف عند مجرد اخــتــيــار الـمـمـثـلـة الـمـنـاسـبـة بـــل يـسـتـمـر طــــوال مـراحـل التصوير حيث يبدأ ذلك بقراءة السيناريو بعمق من قبل الممثلة بالتعاون مع المخرج وذلك لفهم أبعاد الشخصية بشكل أفضل، ويتبع ذلك تحضير تجريبي يتيح للممثلة استكشاف مختلف جوانب الشخصية من حيث المشاعر أو الــحــركــات الـجـسـديـة أثــنــاء الـتـصـويـر، ويــقــدم المخرج توجيهات دقيقة ومستمرة مع إتاحة مساحة للممثلة لتقديم إبـداعـاتـهـا الـخـاصـة الـتـي قـد تضيف عمقا جـديـدا للشخصية، معتبرا أن التحفيز والدعم النفسي من قبل المخرج أمران أساسيان لضمان أداء متميز . وعند الحديث عن تحديات تمثيل المرأة في السينما العربية، أشـــار شويطر إلــى أن الـعـديـد مـن المجتمعات العربية ما زالـت تنظر إلـى السينما كمجال غير تقليدي للنساء مما يـفـرض ضـغـوطـا اجتماعية على الممثلات وصناع الأفلام على حد سواء. ويعتقد بأن هذا الواقع يستوجب من المخرجين تجنب الـصـور النمطية لـلـمـرأة مثل تصويرها دائــمــا فـي أدوار الضحية أو التابعة وبدلا من ذلك يجب تقديم شخصيات نسائية تمثل التنوع والقدرة على القيادة والابتكار بحيث تعكس الصورة الحقيقية للمرأة العربية المعاصرة. وأكد شويطر أن التحديات لا تقتصر فقط على المعوقات الاجتماعية، بل تشمل أيض ًا تأثير الرقابة الفنية التي قد تحد من حرية تقديم موضوعات تتناول قضايا المرأة بجرأة وعمق. وللتغلب على هذه التحديات يدعو إلى تعزيز المبادرات السينمائية التي تدعم المرأة سواء على مستوى التمثيل أو الإخراج أو الإنتاج، مشددا على أهمية دعم المخرجات والكاتبات لتقديم أعمال تسلط الضوء على القضايا التي تواجهها النساء في العالم العربي. وفيما يتعلق بتفاعل الجمهور مـع هـذه الأدوار، يرى شويطر أن التقبل يختلف بين المجتمعات بـنـاء على العوامل الثقافية والتعليمية فالمجتمعات الأكثر انفتاحا وتعليما تميل إلى تقبل أكبر لظهور المرأة في أدوار قيادية أو ذات تأثير، لكنه يشير أيض ًا إلى أن نوعية الأفلام تلعب دورا كبيرا في تشكيل نظرة الجمهور حيث إن الأفلام التي تتناول قضايا اجتماعية أو درامية تميل إلى الحصول على قبول أوسع مقارنة بالأفلام الرومانسية أو الكوميدية التي قد تواجه انتقادات أو يتم تقليل أهميتها. واعتبر شويطر أن السينما لديها الـقـدرة على تغيير الـتـصـورات السائدة حـول الـمـرأة وتعزيز وعـي المجتمع بقضاياها، مشيرا إلى أن تقديم شخصيات نسائية قوية ومستقلة يمكن أن يلهم الـنـسـاء الـعـربـيـات ويحفزهن على دخول مجالات الفن والإبـداع مما يسهم في تحقيق مساواة أكبر بين الجنسين. وشــــدد عــلــى أهــمــيــة تــوفــيــر الـــدعـــم الــمــالــي والــفــرص الإنتاجية لصناع الأفلام الذين يسعون إلى تقديم صورة إيجابية وحقيقية للمرأة في السينما العربية. المرأة في السينما من منظور إجتماعي ترى الباحثة في علم الاجتماع فاطمة صلاح أن صورة الــمــرأة فـي السينما لها تأثير مباشر على المعتقدات الاجتماعية والثقافية، إذ إنها تشكّّل صورة ذهنية متكررة ترسخ في أذهان الجمهور فعندما تُُصور المرأة كضعيفة، أو كـأن نجاحها مرتبط بتخليها عن الأخلاق والقيمم يتم تعزيز الفكرة مجتمعية التي تُُظهر المرأة كتابعة للرجل أو لا تستطيع التقدم دون التضحية بمبادئها. وأضـافـت أن «السينما عندما تـقـدم هــذه الـصـور في سياقات تبدو مألوفة ومقبولة اجتماعي ًًا تجعل من الصعب كسر هذه القوالب النمطية»، لافتة إلى قدرة السينما على تغيير هذه المفاهيم إذا ما قدمت نماذج إيجابية تُُبرز قوة المرأة ودورها المؤثر. وفـيـمـا يـخـص دور الـسـيـنـمـا فـــي إعـــــادة إنـــتـــاج الـصـور النمطية، ترى صلاح أن السينما تُُعتبر أداة رئيسية لهذا الإنــتــاج بسبب انعكاسها للثقافة الـسـائـدة، مرجحة أن المشكلة تكمن في تقديمها صــورًًا تقليدية مثل المرأة الضعيفة أو المغرية أو الأم المثالية. وتشير إلى أن هذه الصور تُُكرِِّس مفاهيم مجتمعية تُُعزز التفاوت بين الجنسين، مؤكدة أن الجمهور عندما يتلقى هـذه الصور باستمرار يرسخ لديه إحساس بأنها تمثل الواقع مّّا يعيق أي تقدم اجتماعي نحو المساواة والتطور. وحول تصوير المرأة في السينما كرمز للانفتاح الزائد، لفتت صلاح إلى أن هذا التمثيل يُُظهر النساء في بعض الأفلام بشكل مبالغ فيه من التحرر والانفتاح م ّّا يؤدي إلى تقديم صور مشوهة عن المرأة؛ لأنها تُُبرز تحررًًا جسديًًا وعاطفيًًا مفرط ًًا. وتابعت أن هذا النوع من التمثيل ينقل رسالة مغلوطة ت ُُفيد بأن نجاح المرأة واستقلالها لا يتحققان إلا بتجاوز القيم المجتمعية وت ُُحذر من أن هذه الصور تسهم في خلق فجوة بين النساء اللواتي يسعين للتقدم وبين المجتمع الذي ينظر إلى هذا التقدم بعين الريبة، معتبرة أن هذا النوع من التمثيل يؤدي إلى رفض مجتمعي للنماذج النسائية ا من احتضانهن كأفراد يسعون للتغيير. القوية بدلًا وعن كيفية تمثيل المرأة بشكل واقعي وسليم، أكدت صلاح أنه من الممكن تحقيق ذلك إذا تم تسليط الضوء على شخصيات نسائية تحمل صفات الطموح والـذكـاء مع الالتزام بقيمهن الأخلاقية والاجتماعية، مشددة على أهمية السيناريوهات التي تعكس قصص نجاح واقعية تُُظهر قدرة المرأة على التميز عبر الاجتهاد والعمل الجاد دون الحاجة للتخلي عن هويتها الثقافية. وأشـــارت إلـى أن الأمثلة الحقيقية للنساء الناجحات يمكن أن تُُلهم صناع السينما لإنتاج قصص أكثر عمقًًا وواقعية. كما تناولت صلاح العوامل المؤثرة على الصور النمطية الـتـي تنقلها السينما، مبينة أن هــذه الـعـوامـل تشمل الثقافة السائدة والسعي لتحقيق نجاح تجاري سريع إلى جانب غياب الوعي لدى الك ُُت ّّاب والمخرجين بتأثير رسائلهم على الجمهور. وأوضحت أن الرقابة المجتمعية والسياسية تُُعد جزء ًًا أساسي ًًا في التحكم بالمحتوى المقدم إلى جانب التأثيرات الخارجية التي تُُفرض أحيانًًا على السينما العربية م ّّا يؤدي ا من خلق محتوى يعكس إلى استنساخ أنماط محددة بدلًا الواقع المحلي. أمــا عـن نظرة المجتمع العربي لهذه الـصـور، فذكرت صلاح «أن الغالبية تتبنى هذه الصور النمطية دون إدراك لآثارها السلبية خاصة أنها ت ُُعرض بشكل متكرر كأنها تمثل الحقيقة، ومـع ذلـك هناك فئة من المثقفين والنشطاء الـذيـن يسعون إلــى تحدي هــذه الأنـمـاط مـن خلال النقد والحوار». ونبهت إلــى أن هــذه الـجـهـود قـد لا تصل إلــى شريحة واســعــة مــن الـجـمـهـور بـسـبـب ضـعـف الــتــرويــج للأعــمــال السينمائية البديلة والإفتقار الـى المنصات المخصصة للنقاش المجتمعي. وعــن الحركة النسائية فـي السينما العربية، أشــارت صلاح إلــى وجــود تيار متنام يـقـوده عــدد مـن المخرجات والكاتبات العربيات يهدف إلى كسر الصور النمطية عن الـمـرأة، مشيدة بهذا الاتـجـاه الــذي يسعى لإبــراز تعددية أدوار الـمـرأة وإظـهـار قوتها فـي مواجهة التحديات، ومع ذلك بينت أن هذا التيار يواجه صعوبات كبيرة مثل قلة التمويل، الرقابة المشددة، ورفض الجمهور لبعض الأفكار الجديدة التي تطرحها هذه الأعمال. وخلُُصت صلاح إلـى أهمية دور الأكاديميين في هذا السياق مشيرة إلى أنهم يمكن أن يسهموا بشكل كبير عبر إعداد بحوث نقدية ت ُُبرز التأثير السلبي للصور النمطية على المجتمع. ودعـــت إلـــى نـشـر الـــدراســـات والــمــقــالات الـنـقـديـة في وسـائـل الإعلام وتنظيم نـــدوات وورش عمل تجمع بين صناع السينما والنقاد والجمهور لمناقشة هذه القضايا، مـؤكـدة أهمية التثقيف الإعلامــــي الـــذي يُُــعـد أداة فعالة لمساعدة الجمهور على فهم الرسائل السينمائية بشكل نقدي. المرأة في السينما العربية: من صورة الضحية إلى الانفتاح الزائد شهدت السينما العربية صورا نمطية سلبية عن المرأة العربية ࣯ ج ود مقدادي � ي رموك- س � صحافة ال لطالما كانت الترجمة هي وسيلة الأمـم لتجاوز اللغة والمكان، وتلاقي الثقافات وتداخ ُُل الأفكار، لتصنع نسيج ًًا مشتركًًا مـن المعرفة والتفاهم الإنـسـانـي عبر التاريخ، وكانت بمثابة حجر الأساس الذي حفظ علوم الحضارات، وفتح أبوابًًا أمام الإبداع الإنساني، وساهم في إثراء التراث العالمي. وفي ظل تحد ّّيات العصر الحديث، تظل الترجمة الجسر الذي يعبر عليه الفكر من ضفة إلى أخـرى، حاملة رسالة إنسانية بوسعها أن تعزّّز التفاهم بين شعوب العالم، إذ أنها تنقل الأفكار بـروح جديدة، لتؤكّّد أن الحوار الثقافي لا يقتصر على الـكـلـمـات، إنـمـا يمتد إلــى جـوهـر التجربة والمعنى. الترجمة.. جسر بين الثقافات قال المترجم أحمد الريماوي أن الترجمة لعبت دورًًا محوريًًا في تاريخ العرب والمسلمين الأوائل، حيث كانت الوسيلة الرئيسية للتعرف على علوم الحضارات الأخرى. وأوضح أن حركة الترجمة والنقل بدأت في عصر الدولة الأموية، لكنها بلغت ذروتها خلال صدر الدولة العباسية، لاسيما في عهد الخليفة المأمون الذي أسس بيت الحكمة والمنارة المعرفية التي أصبحت حجر الأساس لمدرسة بغداد، والتي استمر تأثيرها حتى النصف الثاني من القرن الخامس عشر. وأضـاف الريماوي أن هذه المدرسة ساهمت بشكل كبير فـي الحفاظ على إرث الـحـضـارات السابقة وضمان استمرارية الحضارة الإنسانية. وأشار إلى أن الترجمة واصلت أداء دورها الحيوي في العصر الحديث كجسر للتقارب بين الشعوب، ففي زمن ما قبل الثورة التكنولوجية، لم يكن القارئ العربي ليتمكن من التعرف على تفاصيل الحياة في روسيا القيصرية دون ترجمة روايــات «فـيـودور دوستويفسكي»، أو الحياة في فرنسا ما بعد الثورة بدون ترجمة أدب «فيكتور هوغو»، أو أجواء دبلن بعد الحرب العالمية الأولى دون ترجمة رواية «عوليس» لجيمس جويس، والتي أنجزها طه محمود طه في ثماني سنوات. وتــابــع الــريــمــاوي «بـالـمـثـل، لــم يـكـن الـــقـــارئ الـغـربـي ليكتشف مأساة اللجوء الفلسطيني دون ترجمة روايات غسان كنفاني، التي وصفها المترجم الياباني «نوبوأكي نوتوهارا» بأنها من أهم ما كُُتب في القرن العشرين، إذ إنها قدمت مائة صورة لأقدار الفلسطينيين». وفــــي الـــســـيـــاق ذاتــــــه، اســتــشــهــد بـــــكلام الــبــروفــيــســور السويسري «هارتموت فاندريتش»، أحد أبرز مترجمي الأدب العربي إلــى الألـمـانـيـة، الـــذي شـبّّــه عمل المترجم بالقديس «كريستوفروس»، إذ قال إن «كريستوفروس» كــان يحمل الـنـاس عبر نهر خطير، حين ظهر لـه السيد المسيح متنكرًًا في زي مسافر ليعبر به النهر. وأضاف الريماوي أن المترجم، مثل «كريستوفروس»، ينقل النصوص من ضفة إلى أخرى، ومن شعب إلى آخر، بــإعــادة صياغتها بلغة جــديــدة، مـع الـحـرص على إيصال المعنى دون أن يضيع أو يتشوه خلال العبور. بدوره، قال رئيس جمعية المترجمين الأردنيين وأستاذ الترجمة في جامعة اليرموك الدكتور محمد عبيدات إن الترجمة تلعب دورًًا محوريًًا في تعزيز الفهم والتواصل بين الثقافات. ووصـــف الـتـرجـمـة بـأنـهـا الـجـسـر الـــذي يـربـط الشعوب عبر الحواجز اللغوية والثقافية، موضح ًًا أنها تُُتيح تحويل النصوص والأفكار والعبارات الثقافية من لغة إلى أخرى، ما يعزز تبادل المعرفة والأدب والتقاليد والقيم بين الشعوب ويسهم في بناء الاحترام والتقدير المتبادل. وأضاف عبيدات أن الترجمة أصبحت في عصر العولمة أداة أساسية في تسهيل القنوات الدبلوماسية الدولية والتبادل التجاري، مع مراعاة الحفاظ على الفروق الثقافية واحترامها. وأشار إلى أن ترجمة الأعمال الأدبية، على سبيل المثال، تفتح الأفق أمام القراء لاستكشاف رؤى وثقافات مختلفة، بما يعكس مشاعر وإبــــداع شـعـوب أخـــرى، كما تضمن الترجمة الدقيقة للوثائق القانونية أو التقنية وضـوح الـتـواصـل فــي مــجــالات الأعــمــال والإدارة، م ّّـــا يـعـزز الثقة ويحقق الأهداف المشتركة. وتابع عبيدات أن الترجمة تسهم في الحفاظ على التراث الثقافي، مـن خلال إتـاحـة النصوص التاريخية والدينية لجماهير متنوعة، مما يدعم فهم التاريخ والتراث الإنساني المشترك. وأشــار عبيدات إلـى أن الترجمة ليست مجرد عملية لغوية بحتة، بل ترتبط بالدقة اللغوية والتكيف الثقافي والحساسية تجاه خصوصية الثقافات المختلفة. وبيّن أن الترجمة تؤكد على الخصوصية الثقافية لكل مجتمع، مع إبراز التجارب الإنسانية المشتركة، مما يعزز الحوار الثقافي والفكري بين الشعوب. وأكد عبيدات أن الترجمة ستظل أداة أساسية في بناء جسور التفاهم الإنساني والـحـوار الثقافي، مشددًًا على ضرورة تطوير مهارات المترجمين وتعزيز الوعي بأهمية الـــدور الــذي يـؤدونـه فـي عالم مليء بالتحديات الثقافية واللغوية. وذكر عبيدات أن الترجمة تلعب دورًًا جوهريًًا في تعزيز التفاهم بين الثقافات وتصحيح الصور النمطية المغلوطة، مستشهدا ببعض الأعـمـال الأدبـيـة المترجمة ساهمت فـي تغيير الـتـصـورات الـسـائـدة عـن الشعوب والثقافات المختلفة. وأشار عبيدات إلى كتاب «الاستشراق» لإدوارد سعيد، الــــذي ك ُُــتــب بـالـلـغـة الإنـجـلـيـزيـة وتــرجــم إلـــى لــغــات عــدة، ا إن الكتاب قــدم نقدًًا كأحد أبــرز الأمثلة على ذلــك. قـــائلًا حادًًا للطريقة التي صوّّر بها الغرب المجتمعات الشرقية تاريخي ًًا، والذي دعا إلى مزيد من الاحترام والفهم المتبادل بين الثقافات. وتـحـدث عبيدات عـن التأثير العالمي لـروايـات نجيب محفوظ، وخاصة «ثلاثية القاهرة»، التي تضم روايات «بين القصرين»، و»قصر الشوق»، و»السكرية». وأوضح أن هذه الثلاثية، التي ترجمها إلى الإنجليزية عدد من المترجمين البارزين، نقلت صورة إنسانية غنية عن المجتمع المصري عبر ثلاثة أجيال، مما أسهم في تغيير التصورات النمطية عن الثقافة العربية، وأكسب نجيب محفوظ جائزة نوبل للأدب. ولــفــت عــبــيــدات إلـــى روايـــــة «مـــائـــة عـــام مـــن الـعـزلـة» للكاتب الكولومبي غابرييل غارسيا ماركيز، التي تُُرجمت لغة، موضح ًًا أن هذه الرواية قدمت رؤية 50 إلى حوالي متعمقة عن ثقافة أميركا اللاتينية، كاشفة عن تعقيداتها التاريخية والثقافية، ما ساعد على تحطيم الصور النمطية عن شعوب تلك المنطقة. ويـــرى عـبـيـدات أن هـــذه الأعـــمـــال الأدبـــيـــة المترجمة، وغيرها، تظهر بجلاء الدور الحيوي للترجمة كجسر يربط بين الـشـعـوب، ويـعـزز الــحــوار الـثـقـافـي، ويـدعـم التفاهم والاحترام المتبادل، داعيًا إلى زيـادة الجهود المؤسسية لدعم ترجمة الأعمال الأدبية والثقافية إلى مختلف اللغات. بـيـنـمـا قـــال الـمـتـرجـم والـــدكـــتـــور مـحـمـد الـشـنـطـي إن الترجمة كانت ولا تزال الجسر الأساسي الذي يربط بين الحضارات المختلفة، مشيرًًا إلى أنها تؤدي دورًًا محوريًًا في نقل العلوم والثقافات والـمـعـارف، ما يعزز التفاهم الإنساني ويقلل من احتمالية التصادم بين الشعوب. وأوضح أنها لطالما كانت وسيلة لتلاقح الأفكار وتبادل الـرؤى، مما أسهم في تطوير الحضارة الإنسانية، مشددًًا على ضرورة النظر إلى الترجمة كعملية مستدامة تضمن الاستفادة من منجزات العقول البشرية عبر العصور. وأضاف الشنطي أن الترجمة تسهم في نفي أطروحات صدام الحضارات التي طرحها «صامويل هنتنجتون» في كتابه الشهير، حيث اعتبر أن الاختلافات الثقافية ستكون المصدر الأساسي للصراعات المستقبلية، مشيرًًا إلى أن الترجمة تعاكس هذا الطرح بتعزيزها للتقارب والتعاون. وذكــــر أطـــروحـــة «فـرانـسـيـس فــوكــويــامــا» حـــول نهاية التاريخ، التي تنبأت بأن الديمقراطية الليبرالية ستصبح المرحلة الأخيرة من التطور الإنساني، موضح ًًا أن مثل هذه النظريات تتجاهل أهمية التواصل الثقافي الـذي تتيحه الترجمة، في خلق فهم أعمق بين الشعوب. وأكد الشنطي أن الترجمة ليست مجرد وسيلة لنقل النصوص، بل أداة لإخصاب الفكر الإنساني وتنمية التراكم المعرفي، ما يقود إلى تحولات إيجابية نوعية في مختلف المجالات. وحذر من مخاطر الترجمات العشوائية التي قد تحمل أفـكـارًًا مشوهة أو تعزز العنصرية والكراهية، داعـيًًــا إلى وضع استراتيجيات مدروسة لتنظيم حركة الترجمة على المستوى الوطني والعالمي، بحيث تكون خاضعة لإشراف مؤسسات مختصة تسعى لنقل المعارف الإيجابية وتجنب نشر الأفكار الهدامة. عالمية الأدب العربي وفيما يخص الأدب العربي، أوضح الشنطي أن عالمية الأدب العربي تظل قضية ملحة تحتاج إلى تسليط الضوء عليها، مشيرًًا إلى أهمية الترجمة في إيصال هذا الأدب إلى العالم. واستشهد بآراء خبراء مثل الدكتور سعد البازعي، الذي أكد أن الأدب العربي لا يقل شأنًًا عن الأدب العالمي، إلا أن انتشاره يظل مرهونًًا بمدى الاهتمام بترجمته إلى اللغات الأخرى. وأشار إلى أهمية الجهود الفردية والمؤسسية في دعم الترجمة، مستشهدًًا بإنجازات مثل ترجمة أعمال نجيب مـحـفـوظ، الـتـي أسـهـمـت فــي حـصـولـه عـلـى جــائــزة نـوبـل، وإيصال الرواية العربية إلى القارئ العالمي. وأضـــاف الشنطي أن الترجمة لعبت دورًًا كـبـيـرًًا في تعريف العالم بأعمال أدبـيـة عربية تاريخية مثل «ألـف ًا ل عن نتاجات معاصرة ليلة وليلة» و»كليلة ودمنة»، فاض تحمل في طياتها قيم ًًا إنسانية عالمية، لكنها بحاجة إلى دعم من مؤسسات ثقافية تسهم في نشرها عالميًًا. تحد ّّيات الترجمة.. التقليدية والحديثة وفيما يتعلق بتحد ّّيات الترجمة مع وجود تقنيات الذكاء الاصطناعي، قال الدكتور محمد عبيدات إن المترجمين يواجهون تحديات متعددة تتنوع بين التقليدية والحديثة، ما يتطلب منهم مهارات واسعة وقـدرة على التكيف مع التطورات المتسارعة في مجال الترجمة. وأوضـــح أن الـتـحـديـات التقليدية تتعلق بـالاخـتلافـات اللغوية بين اللغة المصدر واللغة الهدف، مثل الأسلوب وبناء الجملة والقواعد ومعاني الكلمات. وشدد عبيدات على ضرورة إتقان المترجم للغات التي يعمل بها، بالإضافة إلى التعامل مع التحديات الثقافية، مثل العادات والتقاليد وأساليب التفاعل الاجتماعي، التي تتطلب من المترجم معرفة واسعة بثقافات الشعوب وسياقاتهم الاجتماعية. وأضاف أن المترجمين يواجهون تحديات غير تقليدية ذات طابع عصري، تتمثل في التطورات التكنولوجية، ولا سيما أدوات الذكاء الاصطناعي والترجمة الآلية. وتابع عبيدات أن مع تقدم هذه التقنيات، بات بالإمكان ترجمة النصوص بسرعة ودقــة فـي بعض الـحـالات، لكن ذلـك يثير مخاوف بشأن تأثير «الأتمتة» على مستقبل المترجمين المهنيين. وأشار إلى أن أدوات الذكاء الاصطناعي قد تكون فع ّّالة في التعامل مع النصوص البسيطة والترجمات الشائعة، إلا أنها تظل غير قادرة على معالجة النصوص المعقدة أو الحفاظ على السياق الثقافي واللغوي بشكل دقيق. وأوضح عبيدات أن هذه الأدوات لا تستطيع فهم الفروق الدقيقة في النبرة أو الأسلوب الأدبي، وهي مهام تظل من اختصاص المترجم البشري». وبيّّن أنـه ورغـم التحديات التي تفرضها أدوات الذكاء الاصـطـنـاعـي، إلا أن الحاجة للمترجمين ستبقى قائمة، خاصة في المجالات التي تتطلب إبداع ًًا وحساسية ثقافية وفهم ًًا عميق ًًا للسياقات المختلفة. وفي السياق ذاتـه، أوضـح الدكتور محمد الشنطي أن الذكاء الاصطناعي، رغم إمكاناته الكبيرة في توفير الوقت والـجـهـد، يظل قـاصـرًًا عـن استيعاب السياقات الثقافية العميقة للنصوص، ما يجعل دور المترجم البشري حاسم ًًا لضمان دقة النصوص وحفظ معانيها الأصلية. وأشار الشنطي إلى أن الذكاء الاصطناعي يعتمد على تغذية راجعة مستمرة من الخبراء لتطوير «أنطولوجيا الـمـعـرفـة»، وهـــي الـهـيـكـل المفاهيمي الـــذي يـربـط بين المفاهيم المختلفة في النصوص. وأكــد أن الترجمة فـي ظـل الـذكـاء الاصطناعي ستظل بحاجة إلى رقابة بشرية مختصة لتجنب الأخطاء وإعادة الصياغة عند الـضـرورة، مـشـددًًا على أن الجهد البشري سيظل جزء ًًا لا غنى عنه في عملية الترجمة مهما تقدمت التقنيات. الترجمة: بوابة العبور بين الثقافات وصون الإرث الإنساني تعبيرية

RkJQdWJsaXNoZXIy NTAwOTM=